جمهور المسرح آدابه وقواعده المتغيرة مع الزمن

مروى بن مسعود/ تونس_

أقنعة للوجه، فواصل زجاجية، دليل تلقيح، وبطاقة هوية، وتعليمات جلوس صارمة؛ قد لا تشكّل كل هذه الشروط مناسبة مثالية لمتابعة عرض مسرحي، لكن مع إعادة فتح المسارح، ودور العرض في جميع أنحاء العالم مرة أخرى؛ فمن المرجح أن تصبح هذه اللوائح جزءاً من (الوضع الطبيعي الجديد).

قد تبدو هذه القواعد، والإجراءات غير مسبوقة، إلا أنه يمكن ربط بروتوكولات كوفيد- 19 بتاريخ طويل من تنظيم سلوكيات الجمهور في المسارح، وخلال ما يقرب من 2500 عام من تاريخ المسرح الغربي، عكست القواعد والتوقّعات الخاصة بجمهور المسرح مدى التزام المجتمعات، بالأعراف السلوكية، والاجتماعية السائدة، وقد أثار سلوك الجمهور بشكل متكرّر تساؤلات حول التصرفات المناسبة للمتفرجين في المسرح، ومن يجب أن يشرف على احترام تطبيقها.

جمهور يعاقب كاتب المسرحية

في المسرح اليوناني القديم على سبيل المثال، كان الجمهور مشاركاً نشطاً، وصاخباً في العديد من المهرجانات الدرامية، يصف أرسطو جمهوراً غاضباً، يغلق عرضاً مسرحياً، بعد أن لاحظ عدم تناسق الأداء، ويصف الباحث الكلاسيكي ديفيد كاوالكوروسيلي قصة من المؤرخ القديم هيرودوت: انفجر المتفرجون في مسرحية (كيس ميليتس) للمخرج فرينيتشوس بالبكاء، وفرضوا على الكاتب المسرحي غرامة قدرها ألف درهم بسبب المحتوى المزعج للمسرحية، إلى جانب هذه التصرفات الجريئة، كانت هناك أيضاً دوافع أخرى لتنظيم سلوك الجمهور؛ يصف بذلك روزويلي وجود (شرطة المسرح)، التي تهدف للحفاظ على النظام أثناء العروض.

السارق مقيّد بالعمود

اشتهرت مسارح عصر النهضة في إنجلترا، بجماهيرها الصاخبة، التي لا تتوانى عن القيام بأي شيء، كانوا يتبولون في المسارح العامة في الهواء الطلق، وينخرطون في تجارب رومانسية، وينامون في العراء، ويأكلون، ويشربون بإسراف أثناء حضور أحدث أعمال شكسبير، وبهدف تجنب هذه القواعد التنظيمية، التي تفرضها السلطات؛ قررت عدّة مسارح نقل مقراتها وعروضها خارج مدينة لندن، وكانت تعرض أعمالها جنباً إلى جنب مع ما يدور في ساحات اصطياد الدببة، والحانات، ودكاكين بائعات الهوى.

وذكر الباحث في أعمال شكسبير، أندرو جور: إنه في ظل انعدام إشراف الدولة على هذه المسارح؛ يتولى الجمهور وضع القواعد بنفسه، على سبيل المثال، في إحدى المرات قبض المتفرجون على أحد الأشخاص كان بصدد نشل أحدهم، وقد تم تقييده بأحد أعمدة المسرح عقاباً له.

إلغاء المقاعد الرخيصة

في منتصف القرن الثامن عشر، كان الممثل، والمدير المسرحي الشهير ديفيد جاريك، مصمماً على إصلاح سلوك الجمهور المسرحي، الذي عدّه مربكاً ومشوشاً، حتى تلك الفترة، كان يمكن للجمهور الجلوس على خشبة المسرح جنباً إلى جنب مع فنّاني الأداء، حتى أنه في أحد النصوص الساخرة بعنوان (كتاب بوق النورس) The Gull,s Hornbook، قُدمت نصائح حول أفضل السبل، التي يمكن للمتفرج اتباعها ليلفت انتباه الحاضرين بدل التركيز على العرض على الخشبة – وذلك من خلال التباهي بساقيه، وملابسه، وشعره و(لحيته التي يمكن تحمّلها).

لذلك سعى جاريك لتجديد مسرحه، بهدف إبعاد الجمهور عن خشبة المسرح، ومنع الأفراد من اعتلاء الخشبة انطلاقاً من غرف ملابس الممثلين، كما قرّر التخلّي عن التذاكر بنصف السعر عند الاستراحة، في ظل هذا النظام، كان يمكن للمشاهدين دفع تذاكر أرخص لمشاهدة النصف الثاني من العرض فقط، وفي النهاية تراجع عن قراره بعد أن تسبب الجمهور الغاضب في أعمال شغب كبيرة، احتجاجاً على هذا التغيير المقترح.

الإضاءة الفاصلة

بحلول القرن التاسع عشر ظهر ما يعرف بـ(قوس المسرح)، وهي ميزة معمارية تفصل الجمهور، بشكل فعال للغاية عن الممثلين، فوق خشبة المسرح، بواسطة إطار يشبه إطار الصورة حول المسرح، إلى جانب هذا التحول الهيكلي، عزّز التطوّر في الإضاءة أيضاً فصل الجمهور عن فنّاني الأداء.

وحتى القرن التاسع عشر، كان مكان الجمهور مضاءً بشكل ساطع على غرار المسرح، وفي عام 1817 بدأت المسارح في استخدام إضاءة الغاز، وصولاً إلى اعتماد أضواء المسرح في عام 1837، وقد فصلت هذه الابتكارات في الإنارة بين الجمهور، الذي يجلس في الظل، والممثلين المسرحيين، الذين يعملون تحت الأضواء الساطعة.

وتدريجياً أصبح الجمهور -المنفصل جسدياً والمعتم بصرياً-أكثر ليونة وانقياداً، في جانب آخر، وصفت عالمة المسرح كارولين هايم أنه في أواخر القرن التاسع عشر، تم تعزيز القواعد، التي تحد من مشاركة الجمهور في الأداء التعبيري على المسرح، وفي المسارح الجديدة، كانت القواعد الجديدة مطبوعة على قوائم اللعب، وعلى اللافتات، والفواتير اليدوية، والإشعارات على ظهر المقاعد، وفي كلمة مدير المسرح قبل العرض، وبحلول نهاية القرن، شكّلت هذه التوقّعات (عقداً) سلوكياً جديداً، كان يتوجّب على الجمهور احترامه.

رفض الهاتف المحمول

اليوم، لا تزال فكرة القواعد المناسبة للجمهور في المسرح مطروحة، وهي تشمل كل شيء من قواعد اللباس، إلى الوصول المتأخّر، إلى السعال والحلويات، ويتم التذكير بها دائماً في المسارح اليوم.

لكن استخدام الهواتف المحمولة أصبح يمثّل سلوكاً مثيراً للجدل بين الجمهور، وفي بعض الأحيان يدفع بالممثلين للتدخّل بأنفسهم: في عام 2015، قطعت الممثلة الأمريكية باتيلوبون أداءها في مسرح مدينة نيويورك، وصادرت هاتف أحد أفراد الجمهور.

أداء مريح

في الآونة الأخيرة، تحدى النشطاء، والفنانون، والعلماء مثل كيرستيسيدجمان إرشادات آداب الجمهور لأنها إجراءات إقصائية، ومقيّدة بلا داعٍ، فعلى سبيل المثال، يتم تطبيق معايير السلوك على الأشخاص، الذين يعانون من التشنجات اللاإرادية الحركية، أو الصوتية، إذا وجدوا أنفسهم غير مرحب بهم في الأماكن، التي تتطلب جمهوراً هادئاً وساكناً.

وقد ساعد ذلك في الترويج لبعض التسهيلات مثل (العروض المريحة)، التي تهدف إلى جعل المسرح أكثر سهولة من خلال (الاسترخاء)، أو التخفيف من قواعد الآداب والسلوك.

مشاركة الأماكن العامة

لقد شهدت التوقعات حول سلوك الجمهور تغييرات مستمرة عبر تاريخ المسرح، ولطالما أثار حضور المسرح أسئلة أوسع حول معنى الحضور المشترك في الأماكن العامة، وغالباً ما تعكس الإجراءات المعتمدة في المسرح معايير اجتماعية، وتكنولوجية أكبر، وأحياناً تكون مؤثّرة في صياغتها.

لذلك، بينما يمكن تفسير بروتوكولات الصحة، والسلامة الخاصة بوباء كوفيد-19على أنها مقيدة؛ فإنها في الواقع تذكّرنا: أن حضور المسرح يعني في أغلب الأحيان مناقشة السلوك الفردي، والتجارب، أو التوقعات الجماعية، والأهم من ذلك، وعلى عكس استخدام الهاتف المحمول، أو تناول الحلوى؛ فإن الصحة والسلامة شرطان ضروريان؛ لإبقاء المسرح متاحاً، ومفتوحاً لأكبر عدد ممكن من الأشخاص.