رامان آزاد_
“النظام العالميّ” لم يكن نتاجاً مباشراً لتطوّرٍ فكريّ بشريّ، بل خضعَ لسلسلةٍ من المتغيراتِ تبعاً لما أسفرت عنه الحروبُ الكبرى، وحالةِ التنافسِ المحمومِ بين مراكز القوى العالميّة، ورغم العناوين والشعارات البراقة اليوم لم يتصدَّ النظام العالميّ لمشكلاتِ البشريّةِ الجوهريّةِ، لأنّه في جوهره صيغةٌ لتقاسمِ النفوذِ ويجسّدُ مجلسُ الأمنِ الدوليّ صورةَ احتكارِ القرارِ الدوليّ لصالحِ القوى المنتصرةِ بالحربِ العالميّة الثانيّة. والحرب في أوكرانيا اليوم محاولةٌ لتغييرِ النظام العالميّ القائم.
أثبتت المعاهداتُ والاتفاقاتُ، أنَّ أيَّ نظامٍ عالميّ هو نتاجُ المنتصرِ بالحربِ، ولم يأخذِ النظامُ العالميّ صفةَ الديمومةِ والاستمرار، بل تعرضَ للتغيير وفقاً لانتقالاتِ مراكز القوى ونتائجِ الحروب، وهي عادةُ الحروبِ، فالقوي المنتصرُ يفرضُ شروطه، وهو قانونٌ مستمرٌ حتى اليوم.
ولادة أوروبيّة
أرسى صلح وستفاليا في 30/1/١٦٤٨، أولى ملامح النظام الدوليّ في أوروبا وأنهى ثلاثين سنةً من الاقتتالِ الطائفيّ بين البروتستانت والكاثوليك، والذي اندلع بين الولاياتِ الألمانيّةِ الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة، وانضمّتِ دولٌ أوروبيّة للطرفين، وانتهتِ الحربُ بتقسيمِ ألمانيا لولاياتٍ مستقلةٍ، واستقلالِ هولندا وسويسرا عن الإمبراطوريّةِ الرومانيّة المقدّسة.
أسفر صلح وستفاليا عن مبادئَ جديدةٍ بالسياسةِ الأوروبّية مثل: إقرارُ مبدأ التعايشِ الدينيّ بين الكاثوليك والبروتستانت، واحترام سيادةِ الدولِ ليكونَ من حقِّ الدولِ فقط عقدُ المعاهداتِ، ودشّن توازناً للقوى بين بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وبروسيا، فلا تسيطرُ دولةٌ واحدةٌ على السياسةِ الأوروبيّة، وتعهدتِ الدولُ الأوروبيّة بمنعِ أيّ دولةٍ فرضَ سيطرتها على القارةِ الأوروبيّة. وكانت معاهدة أوترخت عام 1713 خطوةً بهذا المسارِ بتحالفٍ أوروبيّ ضدّ ملك فرنسا لويس الرابع عشر عقب محاولته توريثَ عرش إسبانيا لنجله وولي عهده من ابنة ملك إسبانيا ماري تيريز بعد وفاة أبيها. وانتهتِ الحربُ بهزيمةِ القواتِ الفرنسيّةِ والإسبانيّةِ، وخروج بريطانيا أقوى دولةٍ أوروبيّة.
كان الدافعُ الأساسيّ للحروب هو انتقالُ الرأسماليّة التجاريّة إلى رأسماليّةٍ صناعيّةٍ، وتتحددُ حاجاتها الأساسيّة بثلاث مسائل، المواد الأوليّةِ اللازمة للصناعة، والأسواق الجديدة لتصريفِ فائض الإنتاج، وكسب ميادين جديدة لاستثمار فائض رؤوس الأموال الناتجة، وبذلك شهد العالم الظاهرةَ الاستعماريّة.
الثورة الفرنسيّة عام ١٧٨٩، وطموحاتُ نابليون كانت متغيّراً تاريخيّاً، فقد أعلن نفسه إمبراطوراً، بعد سيطرته على معظم أوربا بما فيها إسبانيا، والبرتغال، وهولندا، والولايات الألمانيّة، وفيينا عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدسة، وانهزم في موسكو أمام المقاومة الروسيّة، ثم خسر الحربَ أمام قوى التحالف الأوروبيّ ولتكونَ هزيمةُ نابليون في معركة واترلو في 18/6/1815 مناسبةً لإعادةِ صياغةِ الواقعِ الأوروبيّ مجدداً على قواعدِ وأسسٍ تراعي المتغيراتِ على الأرض. فتداعى المنتصرون لعقدِ مؤتمر فيينا في أيلول 1815، وتؤسس مرحلةٌ جديدةٌ للنظامِ الدوليّ. ومجدداً أدت الحربُ لتحالفاتٍ وموازين جديدة.
ما بعد الحرب العالميّة الأولى
أسفرت الحرب العالمية الأولى عن تغييرِ مكوّناتِ النظامِ الدوليّ وانتهى حكمُ أسر عتيدة مثل آل هابسبرغ حكام الإمبراطوريّة النمساويّة المجرية، وآل رومانوف حكام روسيا القيصريّة، وآل عثمان حكّام الدولة العثمانيّة، وآل هوهنزولرن حكام الإمبراطوريّة الألمانيّة. وتفككت الإمبراطوريّة النمساويّة المجريّة إلى عدةِ دول من بينها تشكوسلوفاكيا، فضلاً عن النمسا، والمجر. وتزامن ذلك بتصاعدِ النزعاتِ القوميّة لدى شعوب البلقان. وتلاشت بقايا الدولةِ العثمانيّة تماماً مع إعلانِ أتاتورك إلغاء الخلافة عام 1924، وتأسيس دولة تركيا القوميّة العلمانيّة. وقُسّمتِ التركةُ العثمانيّةُ بين بريطانيا وفرنسا.
قبلت ألمانيا بالاستسلامِ العقابيّ المتضمنِ شروطاً قاسيةً شملتِ التنازلَ عن مناطقَ من أراضيها لصالح فرنسا والدنمارك وليتوانيا ودولٍ أوروبيّة أخرى، مع تسليمِ أسطولها البحريّ العسكريّ والتجاريّ وسلاحها الجويّ لخصومها. وصارت فرنسا الدولةَ الأوروبيّة الأقوى، فانتهجت سياسةَ متشددةً وجرّدت ألمانيا من مقوماتِ القوة، وأنهكتها بطلباتِ التعويضِ الباهظة، إلى حدِّ احتلالِ إقليم الرور الألمانيّ عام 1923 لتأخرِها عن تسديدِ التعويضاتِ. وبسببِ خشيةِ بريطانيا من نموِ الطموحاتِ الفرنسيّة التوسعيّة القاريّة مجدداً، عزّزت بريطانيا بالمقابلِ الاستثماراتِ الاقتصاديّة في ألمانيا، ودعمت نهوضها لتوازنَ القوةَ الفرنسيّةَ.
أطاحت الثورة الشيوعيّة في روسيا عام 1917 بالحكمِ القيصريّ، وانتصرت بالحربِ الأهلية الروسيّة، وتصدّت لمحاولاتِ التدخلِ الخارجيّ الأوروبيّة. وفقدتِ السيطرةَ على مناطق من أراضيها (فنلندا وإستونيا وليتوانيا). ولتعويضِ خسارتها أسستِ الاتحادَ السوفييتي من 15 دولةً. وتبنّى النظامُ الشيوعيّ الجديدُ فكرةَ تصديرِ الشيوعيّةِ للخارج، وإنشاءَ أنظمةٍ شيوعيّةٍ في أوروبا على حسابِ الرأسماليّة.
واتّسمتِ السياسةُ الأمريكيّةُ بالاستقلالِ بالشؤونِ الخارجيّةِ عن أوروبا، وتوسيعِ الحضورِ الاقتصاديّ الأمريكيّ بالقارةِ الأوروبيّةِ، ومدِّ النفوذِ في أمريكا الجنوبيّة.
مبادئ ويلسون وعجزُ عصبة الأمم
دخلت أمريكا لاعباً فاعلاً بالساحةِ العالميّةِ والأوروبيّة، وسعى الرئيسُ ويلسون لتغييرِ الأعرافِ التقليديّة للنظامِ الدوليّ القائم حينها على الاتفاقياتِ السريّة بين الدولِ الكبرى، والتحالفاتِ الموجّهة نحو تهديداتٍ محددةٍ كالتحالفاتِ الأوروبيّةِ المناهضةِ لفرنسا النابليونيّة سابقاً. وأعلن عن المبادئ الأربعة عشر المتضمنةَ التأكيدَ على استنادِ العلاقاتِ الدوليّة إلى مواثيق سلامٍ علنيّة، وتخفيضِ التسلح للحدِّ الذي يكفلُ الأمن الداخليّ، وتأمين حرية الملاحةِ في البحارِ خارج المياه الإقليميّة أوقاتَ السلمِ والحربِ، وحقَّ الشعوبِ بتقرير مصيرها. وسعى ويلسون لبناء منظومةِ أمنٍ جماعيّةٍ على أسسٍ تتفقُ مع مبادئه كرفضِ العدوانِ العسكريّ بغضِّ النظر عن أهدافه أو أسبابه، والتسوية السلميّة للنزاعات، والتحكيم الدوليّ بين المتخاصمين. ووفق تعبير كيسنجر كان النظام الدوليّ يُعاد تأسيسه على قاعدة اتفاقاتِ سلامٍ معلنةٍ تم التوصل لها على الملأ، في ظلِّ منظومة أمن جماعيّ لا تحدد التزامات معينة تجاه دولة أو أخرى إنّما تتضمن نوعاً من التحرك المشترك لدى تعرض قواعد النظام الدوليّ للانتهاك.
عقدتِ العصبةُ أولى اجتماعاتها في عام 1920 بجنيف بحضور 42 دولة عضو، وتشكلت من جمعية عامة من ممثلي كافة الدول الأعضاء، ومجلس من أربعة أعضاء دائمين (فرنسا وبريطانيا وإيطاليا واليابان)، وأعضاء غير دائمين. ولم تُقبل عضويّة الاتحاد السوفييتيّ حتى عام 1934. وكانت قراراتُ العصبةِ تتخذُ بالإجماع. وتمخض عن العصبة تأسيس مؤسساتٍ دوليّةٍ مثل محكمة العدل الدوليّة عام 1922. ونشطت العصبة في مجال مساعدة اللاجئين وتحسين ظروفِ العملِ والصحّة ومكافحة المخدرات. وتلقّت العصبة ضربات موجعة أولاها رفضُ الكونغرس الأمريكيّ مشاركة أمريكا بالعصبة لميله إلى اعتماد سياسة تؤكّد على حرية الولايات المتحدة بالعمل بما يتفق ومصالحها دون تقيّدٍ مسبقٍ بالتزاماتٍ سياسيّةٍ محددةٍ. ثم انسحبت اليابان وإيطاليا من العصبة بعد رفض العصبة غزو اليابان للصين، وإيطاليا للحبشة، كما انسحبت ألمانيا من العصبة عام 1933 بعد تولي هتلر للسلطة. وطردتِ العصبةُ الاتحاد السوفييتيّ من عضويتها عام 1939 إثر غزوه لفنلندا. وفيما نجحت بتسويةِ النزاعات بين الدولِ الصغيرة كالنزاع بين بلغاريا واليونان عام 1925، فقد عجزت عن تسويةِ النزاعات بين الدول الكبرى ولتصدّي لتجاوزاتها، وعدم تحقيقها لمصالح القوى الكبرى الصاعدة مثل أمريكا والاتحاد السوفيتي، فتمَّ حلّها عام 1946، وتحويل ممتلكاتها إلى الأمم المتحدة، وأصبح مقرّ العصبة في جنيف المقرَّ الأوروبيّ للأممِ المتحدةِ.
الحرب العالميّة الثانية
بنهايةِ الحربِ العالميّة الثانية انهار المشروعُ الألمانيّ لفرضِ السيطرةِ على أوروبا، وسقطتِ العاصمة الألمانيّة في قبضةِ احتلالٍ أربع دولٍ (أمريكا وروسيا وفرنسا وبريطانيا)، وقُسّمت ألمانيا لدولتين منفصلتين. وتحطّم المشروع اليابانيّ للسيطرةِ على شرق آسيا والمحيط الهاديّ، وخرجت بريطانيا منهكةً بفعلِ النزيفِ البشريّ والاقتصاديّ، فقلّصت التزاماتها الخارجيّة، وانسحبت من الهند، وتخلت عن التعهد بحمايةِ تركيا واليونان، وأعادت نشرَ قواتها الموجودةِ في مصر حول قناة السويس فقط. وحاولت فرنسا لملمةَ جراحها بعد أربع سنواتٍ من الاحتلال الألمانيّ اُستنزفت فيها اقتصاديّاً. وبرز قطبان جديدان هما الولايات المتحدة الأمريكيّة والاتحاد السوفيتيّ. وفي عام 1945 أُعلن عن تأسيس منظمةٍ جديدةٍ باسم “الأمم المتحدة” تعنى بحفظ الأمن والسلم الدوليين. وتشكلت من 6 مؤسسات.
كانت أمريكا الرابح الأكبر، فقد خرجت من الحربِ أكثر ثراءً وازداد اجماليّ دخلها القوميّ، وضمّ أسطولها الحربيّ عشرات حاملات الطائرات وهو الأكبر من نوعه، وامتلكت القنابل النووية التي فاجأت العالم آنذاك، وانتشرتِ القواتُ الأمريكيّة في أنحاء الأرض، وعام 1945 بلغ عدد الفرق الأمريكيّة 69 فرقة في أوروبا، و26 فرقة في آسيا والمحيط الهادي. ووضعت أمريكا يدها على معظم مواردِ العالم الاستراتيجيّة وتمثلتِ الخطة الأمريكية حينها بثلاثة محاور هي: تأسيس قواعد عسكريّة في المواقع الاستراتيجيّة عبر العالم، وإبرام معاهدات أمنيّة مع الدول الحليفة، ومدِّ النفوذِ الاقتصاديّ.
خسر الاتحاد السوفييتي نحو 15 مليون قتيل خلال الحرب، ورغم الخسائر الضخمة إلا أنَّ الحربَ انتهت بتمكّن الروس من السيطرةِ على معظم أوروبا الشرقيّة (بولندا، وتشيكوسلوفاكيا، ورومانيا، وبلغاريا، والمجر) حتى العاصمة الألمانيّة برلين. وجاء التمدد العسكريّ على حساب الوضع الاقتصاديّ، فقد ركّزت روسيا أثناء الحرب على التصنيعِ العسكريّ بمقابل خفضِ معدلات الإنتاج الصناعيّ المدنيّ والزراعيّ، وأضحت بنهايةِ الحرب عملاقاً عسكريّاً وقزماً اقتصاديّاً. وسعى الروس لتقليصِ الفوارق التقنيّة بين روسيا وأمريكا بالاستعانةِ بعلماء ألمان أسرى لتطوير الصناعة العسكريّة. وأثار النظام السوفييتيّ بجيوشه الضخمة، وموارده المهولة، وأفكاره الشيوعيّة الثوريّة، وهيمنته على شرق أوروبا، مخاوف أمريكا وحلفائها.
وانتهت صلاحيّة التحالف الروسيّ الأمريكيّ بعد الحرب، وسعت روسيا لتأسيس أنظمةٍ شيوعيّة شرق أوروبا تدينُ بالولاءِ لموسكو. ووصل الشيوعيون للحكم في الصين عام 1949. وقادت أمريكا خطة “مارشال” لتنفيذِ مشاريع اقتصاديّة في أوروبا لتعزيزِ الممانعة أمام الطموحات الشيوعيّة، وتأسس حلف الناتو عام 1949، ليكونَ مظلة تقديم المساعدة الأمريكية للدول الأوروبية حالَ تعرضّها للهجومِ، وبدأ عصرُ الاعتمادِ الأوروبيّ على أمريكا لتوفيرِ الأمن والاحتياجاتِ الاقتصاديّة. وردَّ الاتحاد السوفييتيّ بتأسيس حلف وارسو عام 1955 إثر انضمام ألمانيا الغربيّة لحلف الناتو عام 1954.