يعدُّ الارتزاق والخيانة لقضية الشعب السوري المظلوم من أدنى المراتب التي وصلت إليها المعارضة السوريّة، وفصائلها المسلحة، من جهة تقديم الخدمات والانبطاح أمام أسيادها، فهم في نظرهم، حُثالة قوم، ولا تشكّل خدماتها حصانة لها، فقد يتم التضحية بها حين الانتهاء من الغرض الذي تم استغلالها من أجله.
تعدّد الولاءات والانتهازية والمتاجرة بالشعب السوري
منذ اندلاع الأزمة السورية في 15 آذار 2015 ضد حكم بشار الأسد، رفضاً للقمع، والاستغلال، والديكتاتورية، نادى السوريون بالحرية، والكرامة، وعدم قبول الذل (الشعب السوري مابينذل)، وكان أسلوب تعاطي حكومة دمشق متوقعاً، ولم يكن أحد يتوقع أن تكون ردة الفعل قصفاً، وتدميراً وتشريداً لملايين السوريين، حتى وصل الأمر إلى حد تجاوز الخطوط الحمراء، وتمثل ذلك باستخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب؛ تطبيقاً عملياً للشعار، الذي كان يردده الموالون (الأسد أو نحرق البلد)، هذا الأسلوب في تعاطي حكومة دمشق مع المعارضين؛ دفع الوضع في سوريا إلى عسكرة تلك الاحتجاجات، وظهور المعارضات المسلحة، التي كانت في معظمها ممولة خارجياً وتنفذ أجندات الأطراف الممولة لها.
وقد أفرزت الأزمة السوريّة العشرات من الفصائل المسلحة، ذات التوجهات الأيديولوجية المختلفة، والمتناقضة، منها السلفية، والجهادية الإسلامية، والسلطوية، والديمقراطية، والعلمانية، فكلها وقعت في فخ الارتزاق، والارتهان للداعمين، ونتيجة لذلك التعدد، كان من الصعب جمعهم في جسم واحد يمثل أحلام وتطلعات الشعب السوري الذي كانت أبرز مطالبه الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، فلم تكن مطالبه بدولة إسلامية، ولا سلفية جهادية.
وقد ساهمت الصراعات الداخلية بين الفصائل المسلحة في ضعف الحاضنة الشعبية، فبعد أن كانت هي المحرك الأساس، والبوصلة، أصبحت رهينة الصراعات بين الفصائل المسلحة، التي حولت الشعب إلى وقود لصراعاتها، كل هذا ساهم في إضعاف تلك الحاضنة الشعبية، فبدأ الصراع فيما بينها الذي هو صراعٌ على السلطة، وجمع المال، والسلب، والنهب، فتحولت إلى مجرد فصائل للمرتزقة تتحرك حسب توجيهات مموليهما، التي تكاد تنحصر حالياً بالطرف التركي، في ظل تراجع الدعم، الذي كانت تتلقاه من باقي الدول الغربية والخليجية.
هناك مقولة يرددها بعض النشطاء السوريين (نحن نحمل قضية مُحقة، ولكن من يحملها سياسيون انتهازيون يتاجرون بها)، فإلى جانب تعدد الفصائل المسلحة هناك العديد من التكتلات السياسية ذات التوجهات المختلفة، التي تدّعي تمثيلها للشعب السوري، مثل (المجلس الوطني السوري)، (الائتلاف الوطني السوري)، (هيئة التفاوض السورية)، بالإضافة إلى العديد من الشخصيات السياسية، فكلها تتبع جهات خارجية من حيث تمويلها، وتعمل على تنفيذ أجنداتها، التي لا تخدم قضية الشعب السوري.
الاحتجاجات في المناطق المحتلة ضد ممارسات الفصائل المسلحة
تشهد المناطق المحتلة من قبل الفصائل المسلحة المدعومة من قبل تركيا حالة سخط وتذمر من فساد تلك الفصائل، وسوء إدارتها، وغياب الأمن، والسلم، وغياب سيادة القانون، هذا وتتستر تلك الفصائل على المجرمين، وتجار المخدرات، وعصابات الخطف، وفي بعض الأحيان يكون قادة تلك الفصائل هم من يديرون تلك العصابات، ويجبر الاقتتال الدائم بين تلك الفصائل المدنيين الأبرياء على التفكير بالهجرة خارج تلك المناطق، وعدم إرسال أولادهم للمدارس، خوفاً عليهم من الفوضى التي تعيشها المناطق المحتلة.
فقد شهدت مدينة الباب في شهر أيار الماضي موجة احتجاجات بعد قيام السلطات المحلية التابعة للفصائل المسلحة بالإفراج عن متهم بارتكاب جرائم قتل، واغتصاب بحق المدنيين خلال فترة خدمته في قوات حكومة دمشق، ولقد أجبرت تلك الاحتجاجات تلك الفصائل على إقالة رئيس فرع الشرطة العسكرية في مدينة الباب وتحويل آخرين للقضاء.
كما شهدت موجة احتجاجات في 10 تشرين الأول احتجاجاً على الفلتان الأمني، وعمليات القتل، والخطف، وانتشار المخدرات في المناطق المحتلة من قبل الفصائل المسلحة المدعومة تركيّاً، واتهم المحتجون الشرطة العسكرية بعدم قدرتها على ضبط الوضع الأمني للحد من عمليات الخطف، والاغتيالات، وفساد تلك الفصائل، وتلك الانتهاكات تشمل كافة المناطق المحتلة (غصن الزيتون) (درع الفرات) وقد شملت الاحتجاجات إغلاق المحال التجارية، والإضراب عن العمل، وإشعال النيران، وإغلاق الطرقات، وكان من أبرز مطالبهم تحميل المسؤولين في تلك المناطق المسؤولية كاملة عن ذلك التدهور الأمني، والاجتماعي، والاقتصادي الذي تعيشه تلك المناطق.
وتعد سلطة القضاء والقانون في تلك المناطق غائبة، وتعلو عليها سلطة الفصائل المسلحة التي تقوم بإعاقة العملية القضائية، والتدخّل للإفراج عن المجرمين، وتجار المخدرات، وفي بعض الأحيان تنفذ أحكامها الميدانية بدون الرجوع للقضاء، وقد سجلت مؤخراً في المناطق المحتلة فقط 12 حالة قتل والفاعلين مجهولين، وتم تنظيم 200حالة سرقة، وخطف، وشروع بالقتل، وضبط العديد من مخازن المخدرات في ضل عجز الأجهزة الأمنية عن ضبط الفلتان الحاصل.
الخطف والاغتيال مهمة الفصائل المسلحة في المناطق المحتلة
تنتشر عمليات الخطف، والقتل بحق المدنيين في المناطق المحتلة من قبل الفصائل المسلحة المدعومة من قبل تركيا، حيث يتم الخطف للمدنيين مقابل فدية مالية، في ظل ضعف الأجهزة الأمنية، والقضائية التي يعد وجودها شكلي فقط للتغطية على تلك الجرائم، وتنشط شبكات وعصابات الخطف بشكلٍ مُنظم، ويتهم النشطاء المحليين الفصائل المسلحة بالوقوف وراء تلك العمليات بحكم سيطرتها على تلك المناطق، وانتشار نقاط حواجزها في تلك المناطق، وهذا يدل على مسؤوليتها عن تلك العمليات، وتعاونها مع عصابات الخطف.
وتتراوح قيمة الفدية المالية من 25ألف إلى120حسب مركز الشخص المختطف، مثلاً تم اختطاف طبيب نسائية في إدلب يدعى خليل آغا، وقد طُلِب فدية له 120 ألف دولار، وقد عُرفت فيما بعد الجهة الخاطفة، وهي تابعة لهيئة تحرير الشام، وتشمل عمليات الخطف المدنيين العاديين، والعاملين في المنظمات الإنسانية، والأطباء، والنساء، وقد تم اختطاف القاضي في شمال إدلب يدعى محمد نور حميدي، ولم يتم إطلاق سراحه إلا بعد دفع فدية مالية قدرها 70 ألف دولار أميركي، كما قد تطال بعض العمليات عناصر سابقين في الفصائل المسلحة، مثل عملية اختطاف القائد السابق في هيئة تحرير الشام زاهر معمار، فقد طلب خاطفوه فدية له 200ألف دولار تم تخفيضها بعد مفاوضات مع الخاطفين إلى 80 ألف دولار.
وتنتشر حالات الاختطاف في جميع المناطق المحتلة من قبل الفصائل المدعومة من تركيا مثل ريف إدلب، وعفرين، وريف حلب، وسري كانيه، وكري سبي/ تل أبيض، وقد اتهمت منظمة العفو الدولية في تقرير لها فصائل المعارضة التابعة للجيش الوطني بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في عفرين.
إلى جانب ذلك تنتشر عمليات القتل، والاغتيالات بحق المدنيين، والناشطين، وحتى أعضاء سابقين في بعض الفصائل المسلحة كان آخرها عملية اغتيال محمد أبو غنوم وزوجته في مدينة الباب بريف حلب، ولم يمضِ أيام بعدها حتى تم اغتيال قيادي سابق في الجيش الحر يدعى راضي عبد الرحمن النجار.
المناطق المحتلة تركيّاً ملاذاً آمناً لخلايا داعش
تُشكل المناطق المحتلة في الشمال السوري ملاذاً لخلايا داعش، وقادتها المتبقين، والدليل على ذلك أن معظم من تم تصفيتهم من قادة داعش من قبل التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية تم رصدهم، واستهدافهم في المناطق المحتلة من قبل الجيش الوطني، وهيئة تحرير الشام (فرع القاعدة في سوريا)، مثل أبو بكر البغدادي الذي تمت تصفيته نهاية عام 2019، وماهر العقال، وأبو إبراهيم القرشي الذي تمت تصفيته بداية عام 2022، ويعد عناصر داعش وقياداتها تلك المناطق مناسبة جداً لتواجدهم، وتَخفيهم في ظل الفلتان الأمني في تلك المناطق، وغياب سلطة واضحة، ومعلومة وغياب جاهز استخباري موحد لتلك المناطق، ومن ناحية أخرى فهي خاضعة للنفوذ التركي الداعم والممول لهم الذي يمدهم بالمساعدات اللوجستية، والمعلومات الاستخبارية، وتقديم الخدمات الطبية لعناصر التنظيم في المشافي التركية، وسهولة تنقّل العناصر بين تركيا والمناطق المحتلة، ذلك بسبب أن تركيا لا تعد داعش خطراً إرهابياً يهدد أمنها، ولا تعد مسألة محاربته أولوية بالنسبة لها، بل بالعكس تستخدمهم لتنفيذ مخططاتها، وأجنداتها في المنطقة، وخاصةً ضد شمال شرقي سوريا.