إعلان الرئيس التركيّ عن مشروع العودة الطوعيّة لمليون لاجئ سوريّ على الأراضي التركيّة جاء في توقيتٍ اقتصاديّ وانتخابيّ دقيق، وكان منافسةً مع المعارضةِ التركيّةِ في استثمار هذا الملف، وفي الوقتِ نفسه ينطوي على تثبيتِ التغييرِ الديمغرافيّ في المناطق المحتلة، فالسوريون المزمع إعادتهم لا ينتمون كلهم للمناطق التي أشار إليها أردوغان، وبذلك فالخطةُ ملحقٌ لمشروعِ إصلاحِ شرق الأناضول الأتاتوركيّ الذي أُقرّ في 8/9/1925.
عفرين جزءٌ من المشروع
أعلن الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان عن مشروع “العودة الطوعيّة لمليون سوريّ”، وستكونُ لهذه العودة وجهاتٌ محددةٌ، ضمن الفلسفة الأمنيّة للدولةِ التركيّةِ الممتدة على إرث في الهندسة السكانيّة يعود لأكثر من 100 عام حيث كانت الدولة تحت حكم جمعية الاتحاد والترّقي، وجهاتُ العودةِ محددةٌ بـ13 مدينة وبلدة، حدد أردوغان منها إعزاز وجرابلس والباب وكري سبي/ تل أبيض و سري كانيه، وليس من المعروفِ إذا كانت عفرين أيضاً ضمن هذه الحزمةِ الاستيطانيّةِ الجديدةِ، لكن في كلِّ الأحوالِ تمَّ استكمالُ الجزءِ الأكبرِ من الهندسةِ السكانيّة في عفرين حيث جرى توطين ما يزيد عن 700 ألف نسمة من العربِ والتركمانِ في قرى الكردِ، والمشروعُ الجديدُ امتدادٌ لمشروعِ “إصلاح الشرق” الذي تمَّ تنفيذه بدايات تأسيسِ الجمهوريةِ.
لعلَّ من المفارقاتِ التي لا يفقهها ويستوعبها جمهورُ الفصائلِ السوريّةِ العاملة لدى تركيا، أنَّ أحدَ أفضلِ من كتب عن “مشروع إصلاح الشرق” في بدايات تأسيس الجمهورية عام 1923، هو الباحث الكرديّ المقيم في هولندا، أوغور أوميت أونغور، الذي شارك في تحقيق صحفي مؤثر حول إعدام عشرات المعتقلين في حي التضامن بدمشق.
تكمنُ الأهميّة الاستثنائيّة لما جمعه أونغور من وثائق تاريخيّة وسِجل التصريحات الخاصة بالمشروع، هو أنّه أخرج المشروع إلى العلن متكاملاً وإجراميّاً بدلاً من إطار الغموضِ والسريّةِ حيث تختلط حينها الشائعات والمبالغات بالحقائقِ كما تريد الدولة التركيّة من أجلِ تصويرِ الأمرِ وكأنّه من المبالغاتِ الكرديّةِ المعروفةِ في بعضِ الأمورِ، وما تسعى الدولةُ إليه أن تقومَ بدمجِ خططِ الإبادةِ المنفّذةِ وتلك قيد التنفيذِ في إطارِ المبالغاتِ النظريّةِ المتعلقة بالتاريخِ وتضخيمِ بعضِ الأحداثِ الهامشيّةِ لدى الكردِ (ينظر أطروحة أونغور: Young Turk social engineering : mass violence and the nation state in eastern Turkey, 1913-1950)
ما هو مشروع إصلاح الشرق؟
تحمّل الكرد مئة عام من النتائج الكارثية لهذا المشروع الذي صاغه مجموعة من الأكاديميين، وعلى رأسهم الكرديّ التركيّ ضياء كوك آلب، تم وضع البرنامج على مدار سنوات من البحث الأكاديمي، وبدأ العمل بتطبيقه منذ الحرب العالمية الأولى عام 1914، لكنه تحوّل إلى ‹برنامج الدولة› منذ نهاية حرب الاستقلال وإعلان الجمهورية عام 1923.
أقرَّ البرنامج كسياسة رسمية للدولة في 8 أيلول 1925. كلف مصطفى كمال، مجلساً خاصاً لصياغة تقرير شامل عن “إصلاح شرق الأناضول”، وترأس عصمت إينونو، “مجلس إصلاح الشرق” وضم في عضويته كبار ضباط الجيش ومسؤولي الدولة، وجاء المشروع امتداداً للانتصار السريع الذي حققه جناح إينونو – فوزي جقمق على جناح فتحي أوكيار، أول رئيس وزراء لتركيا.
حينها كتب عضو المجلس، مصطفى عبد القادر رندا، تقريره في غضون أسبوع وقدمه في 14 أيلول 1925، ووفقاً للتقرير الميداني: عدد سكان شرقي الفرات 1,360,000 نسمة، منهم 993 ألف كرديّ و251 ألف تركي، و117 ألف عربي، وتقصى التكوين العرقي في المحافظات الشرقية، متحسراً على ‹الهيمنة الاقتصادية واللغوية للكرد› في معظم المحافظات الشرقية.
عارض رندا فكرة التعايش التركيّ الكرديّ الذي كان قد دعا إليه أستاذه ضياء كوك آلب وفق قاعدة أن البقاء سيكون للشعب الأكثر تحضراً، وبدلاً من ذلك اعتبر رندا أنه من الضروري توطين الأتراك هناك في محاور استراتيجية في محور آمد “ديار بكر”، تطلب أن يتم التوطين من عينتاب إلى آمد على طريق أورفا، ويمكن العودة إلى كتاب أوغور أوميت أونغور للاطلاع على تفاصيل أكبر حول الآليات التنفيذية الإجرامية لهذا المشروع.
كانت الخطة تقضي بأن تصبح مدينة آمد وعموم منطقة آمد “ديار بكر”، حتى عام 1950، مدينة تركية، مدينة الأتراك، مدينة من لا يقولها فيها أحد أنه كرديّ، لكن نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 1929، ثم الصعوبات الاقتصادية خلال الحرب العالمية الثانية، لم تكن لدى خزينة الدولة أموال كافية لمواصلة هذه المشروعات، لكنها استمرت في تنفيذ الفقرة “باء” من المشروع، وهي تتريك غرب الفرات.
ما علاقة سوريا بالمشروع؟
عام 2018، نقلت تركيا مشروع “إصلاح شرق الأناضول” إلى داخل سوريا، لتحتلَّ منطقةَ عفرين بأسلوبٍ مغوليّ، تمَّ فيه تدميرُ كافةِ مصادرِ معيشةِ السكانِ الكردِ، وتوطين نازحين سوريين في منازلهم وقراهم، وتهجير أكثر من 300 ألف كرديّ.
عام 2019، شنّت تركيا غزواً جديداً واحتلت منطقتي سري كانيه وكري سبي/ تل أبيض، الأمر الذي أدّى إلى تهجيرِ أكثر من 200 ألف من سكان هذه المنطقة، في الإعلانِ الأخير، حدد أردوغان منطقتي سري كانيه وكري سبي/ تل أبيض ضمن مناطقِ الاستيطانِ الجديدةِ.
في الواقع نجحت تركيا خلال مئة عام في مستوى لم يتم الإفصاحُ عنه بشكلٍ علنيّ، وتمثل في تتريكِ غالبيةِ المناطقِ الكرديّة غربي الفرات داخل تركيا (أديمان – مرعش- عينتاب – ملاطية). لم تكنِ الغالبيّةُ الكرديّةُ في هذه الولاياتِ ساحقةً، لكن أيضاً لم تكن نسبةَ أقليّةٍ معزولةٍ، مثلاً في عينتاب كانت نسبة الكرد هناك لا تقلُّ عن 60 %. حالياً قد تصل النسبة الناطقة بالكرديّة إلى 20% فقط، وهكذا بالنسبة للولايات الأخرى المذكورة، إنَّ حزب الشعوب الديمقراطيّ تجاوز “الخطوط الحمراء” للجمهورية حين بات يتوسّع في المنطقة “ب” من مشروع الإصلاح، أي غربي الفرات، وهذا من الأسبابِ الرئيسيّةِ غير المعلنةِ لعودةِ تركيا إلى الحربِ منذ مقاومة كوباني إلى اليوم، وكلُّ الحروبِ التركيّةِ اليوم على صلةٍ بهذا المخطط، بما في ذلك الحملةُ التي يشنّها الجيشُ العراقيّ هذه الأيام على شنكال، فتشكيلُ الحكومةِ العراقيّةِ سيبقى معلقاً إلى أن ينتهيَ مصطفى الكاظمي، رئيس وزراء تصريفِ الأعمالِ، بإنجازِ الجزءِ الموكلِ إليه وكذلك انتهاءِ الحملةِ التركيّةِ (قفل المخلب)، حيث أنَّ الحملتين، شنكال وقفل المخلب، حصيلةُ صفقةٍ إقليميّةٍ شاركت فيها أطرافٌ كرديّة أيضاً، عن قناعةٍ، ذلك أنَّ الدولةَ التركيّة لم تقم حتى الآن بتفعيلِ الجزء الخاصِ بإقليمِ كردستان من مشروعِ إصلاحِ شرق الأناضول، وتوهّم من يحكمون هناك أنّهم سيكونون “الفئة الناجية” من هذه العملية المستمرة منذ 100 عام ولا صلةَ لها بظهورِ حزبِ العمالِ الكردستانيّ.
قوة دفع ذاتيّة
تراجعتِ الآلياتُ التنفيذيّةُ لبرنامج “إصلاح الشرق” داخل تركيا، بعد أن أصبحت له قوةُ دفعٍ ذاتيّةٍ لا تحتاجُ إلى تسييرٍ علنيّ، حيث اندمجت برامج الهندسة الاجتماعيّة مع الأجهزة الأمنيّة وبمساعدة قاتلة من اليسارِ الثوريّ التركيّ الذي كان الأداةَ الخفيةَ التي كرّستِ اللغةَ التركيّةَ لغةً للسياسةِ والمجتمعِ والفنِّ الثوريّ داخل المنازلِ الكرديّة غربي الفرات.
في كتابٍ بالكرديّةِ عن الأغاني الشعبيّة في منطقة مرعش، يتحدثُ الكاتب “علي ألخاسي” في المقدمة عن مشكلةِ اللغةِ في مرعش بين الكرد، حيث نسبةٌ كبيرةٌ لا تتحدثُ الكرديّةَ، أو يتحدثونها بركاكةٍ. يضعُ ألخاسي اللومَ – وهنا المفاجأة – على التنظيماتِ اليساريّةِ الراديكاليّةِ المتمردةِ بطبعها على الدولةِ، لكنها كانت تلتزم باللغةِ التركيّةِ لغةَ الاجتماعاتِ والمجتمعِ، ويروي الكاتب حوادث شهدها بنفسه عن تعرضِ اللغةِ الكرديّةِ ومتكلميها إلى الإهانةِ والطردِ من الاجتماعاتِ الحزبيةِ الثوريةِ، كما لم تكنِ الأغاني الكرديّةُ مسموحةً في تلك الاجتماعاتِ التي يُفترض أنّها سريّةٌ وثوريّةٌ، وبالتالي، النسبة العظمى من الكردِ الذين كانوا منظمين في اليسارِ الراديكاليّ باتوا كرداً بلا لغةٍ.
وجهةُ نظرٍ من زاويةٍ جديدةٍ كليّاً، ربما تضعُ في السياقِ الصحيحِ الأسبابَ التي دفعت مجموعةً يساريّةً كرديّةً وتركيّةً إلى الانفصالِ عن اليسار التركيّ القوميّ وتأسيس حزب العمال الكردستانيّ. زعيم الحزب القائد عبد الله أوجلان يكرر مراراً تبنّي اليسارِ التركيّ أيديولوجية الدولةِ في النزعة القوميّة الإلغائيّة، رغم ذلك فإنَّ المشكلة اللغويّة ألقت بتبعاتها حتى على الحركةِ الجديدة البديلة. في لقائه مع محاميه بتاريخ 5 أيار 2011، أشار القائد عبد الله أوجلان إلى هذا مشروع ‹إصلاح الشرق› بالقول: «إنَّ عملية تفريغ المنطقة من الكرد، لم تتم ممارستها فقط في سرهد، بل طبقوا هذه السياسة في ملاطيا، آلعزيز، آديمان، عنتاب، مرعش، وبالأصح في كلِّ المناطق الواقعة غربي نهر الفرات، هذا المخطط متكاملٌ وشاملٌ، وهو مخططٌ مبرمجٌ لمدةِ مئة عام. بدون رؤية هذه الممارسات لا يمكن فهم الحاضر الذي نعيشه، ولا يمكن ممارسة السياسة».