إعداد/ حسام اسماعيل ـ
خضعت الأشعار الغنائية في شكلها اللغوي واللحني، وفي مضمونها من حيث الغناء، والتطور الاولي، للبيئات، التي نشأت فيها، أو التي هاجرت إليها، واختلف أداء اللون الواحد من هذا النوع من قبيلة لأخرى، وعندما تنتقل أغنية، أو لون من الغناء من البادية إلى مراكز الحضارة المدنية؛ فإنها تخضع إلى مؤثرات بيئية، تكون وراء ما يعتريها من تغير اللهجة، واللفظة، واللحن؛ لتكون مناسبة للأذواق والمناخات الجديدة.
إن الغناء أعلى أشكال التعبير عن الروح، وهو شعور إنساني نبيل، يعبر عن همسات النفس، ويفصح عن خوالج القلوب، والأغاني الشعبية في واقعها هي لوحات تعبيرية عن خصائص، ولهجات كل شعب من الشعوب، وصفحة معبرة عن حياة كل أمة وواقعها، وصورة عن طبائعها، وأهوائها واستعاراتها، وتشبيهاتها في شتى مناسبات الحياة، وعلى شواطئ نهر الفرات وروافده، نشأت حضارات عريقة، أُسّست مدن، واندثرت أخرى، ومازال الفرات عبر تاريخه الطويل مصدراُ روحياً، وإلهاماً لغالبية الشعراء، الذين عاشوا على ضفافه وروافده.
“الجزيرة والفرات” منبعا ألوان الشعر الغنائي
وتعد منطقة الفرات، والجزيرة منبعا ثراً للتراث الشعبي بأشكاله المادية والشفاهية، والصلة هنا وثيقة ما بين البادية والفرات، لأن قبائل الفرات، والجزيرة غالبيتها ترجع في أصولها إلى الجزيرة العربية، التي تعدّ من أكبر منابع البداوة في العالم، وخلال مئات من السنين تكونت لدى السكان القاطنين على ضفاف هذا الشريط المائي، شخصية موحدة يشكل الشعر الشعبي واحدا من أهم مكوناتها، نلمس في السكان وحدة اللهجة، والسلوك، والعادات، والتقاليد، وكأن ظروف العيش قد طبعتهم بميسم واحد.
لقد خلد الشعب نفسه في أغانيه، وعلى مدى العصور الإنسانية، لم يكن الغناء بدعة أو ملء فراغ، أو هرباً من حياة صعبة الانقياد، وإنما كان الغناء الشعبي لوحات رسمت بدقة متناهية بريشة الشعب، وبمداد معتقداته وإيمانه لتصور مختلف أوجه الحياة، لقد كانت الأغنية رفيقة الإنسان في بيته، وحقله ومرعاه، وشكلت لنا مع الزمن تراثاً ضخماً يُضاف إلى أي تراث تعتز به منطقة الفرات، وتفتخر بوجوده.
خصائص الألوان الغنائية الشعرية
تمتاز الأغنية الشعبية بصفات أساسية؛ البساطة في الكلمات والعمق والمعنى، كما أنها تعتمد بشكل أساسي على أدوات موسيقا بسيطة كالربابة، والدف، والمزمار، ومن خصائصها الأخرى الصدق والعفوية، فالأغنية الشعبية تلبي حاجات الإنسان ورغباته أكثر من الأغنية الفصيحة، لأنها أقرب إلى القلب بمضمونها ومعناها، وقد عرف عصرنا الحديث أسماء لا يستهان، بها كنازك الملائكة، إحدى ركائز الحداثة الشعرية، وفدوى طوقان، وهند هارون.
وإذا ما كررنا النظرة ذاتها في الأدب الشعبي “الرقي” نجد أن هذه الظاهرة تختفي، أو بالأحرى تكاد تكون معدومة، فكل ما يثبت من الشعر للنساء يدخل ضمن إطار النعي “أي ذكر مناقب الميت”، وهو نظم خاص بالنساء له موسيقاه الشعرية وفنونه، وطقوسه، وأطواره الموسيقية، وهو أقرب إلى الوثنية، وينافي مفاهيم الديانات السماوية.
وقد ورد ذكر النعي في الشعر الجاهلي، يقول طرفة بن العبد في معلقته المعروفة:
فإن مت فانعي بما أنا أهله….
وشقي علي الحبيب يا بنت معبد.
لكننا حين نسلك سبل الاستنباط والاستنتاج، ونعتمد على القرينة، نجد ما يناقض الواقع المعروف، أي أن الشعر لم ينظم إلا من الشعراء فقط، وخصوصاً في الشعر المغنى، أي في الأغنية الشعبية الرقية، أو ما يعرف محليا باسم “الغنّاوة”.
وإذا ما وضعنا لغة الخطاب جنباً، واهتدينا إلى الكلمة الأنثوية من خلال مميزاتها الخاصة، وجدناها تمتاز بالشفافية، والرقة، والعذوبة، والحزن الممزوج بالعبرة، وخروجها بثورة نفسية تنم عن كبت داخلي، يعود لظروف اجتماعية، ونظام عام وقيود صارمة شديدة، فما يمتلكه الرجل من سبل للتعبير عن عاطفته بشكلٍ حر، لا يُقارن بما يتاح للمرأة إلى جنب ما تنفرد بها، كأنثى بشكل عام كالضعف الجسدي، والمزاج المتغير، والعاطفة الحارة المتقلبة.
ومن خلال دراسة ميدانية أجراها “باحثون” مع بعض الشعراء الشعبيين، وهواة الأدب الشعبي، وجد أن أبيات الشعر الغنائي بالرغم من نظّمها من قبل شاعرات، إلا أنها قليلة، وأغلبها لا يتم نسبتها إليهن؛ بسبب جملة العادات والتقاليد المحافظة …ومن أشعارهنَّ من لون المولية:
“يا ضي جبينو يخد وتكول بدر هل
دمعي على خلتي من غير سايه هل
اسايلك بالنبي منت ولد من هل؟
معطر زياجو من الريحان مملية”
ومن النايل:
“الكلب منك جفل ماعاد لك يفعل
تطارد هوى غيرنا وتريدني ما أزعل”
وعثرت أيضا على بعض الحكايات، التي تضمنت في مجرياتها شعرا أنثويا.
ومما روي لي أن شاباً قال لفتاة بعد أن حمل راحلتها بالذرة الخضراء:
“على صدرو كريت الميم واللاف
لبو جعد يشبه العربيد لولف
ترى البطان والعرنوس واللاف
حشيش لكم يا مجدو عين الذواب”
فأجابته قائلة:
“حلفت لك بيمين الشرع مازال
هواكم بخمص حشاي…مازال
محرك علي معاشر العفنين…مازال
أنتم مذاكير …بالهوى ما زال”
ويقال أن هذا البيت كان مهراً لها..
لون ” النايل” تعبير عن الحس الشعري النسائي
ومن ألوان الغناء الشعري، لون “النايل” الذي يتسم بالفكرة العابرة الخاطفة، وهو سهل النظم، إذ إنه يكتب على البحر البسيط، وهو بيت بشطرين مقفيين بقافية واحدة، ولولا ما نظمه الشاعر محمود الذخيرة، ورفده الشاعر موسى الحمد للنايل لغلب الطابع الأنثوي على هذا اللون في مدينة الرقة، فلو وضعنا آثار محمود الذخيرة وموسى الحمد جانبا، لكان غالب النايل من نظم النساء، وهذا الكلام قابل لإثبات العكس، لكن أغلب المعاني، والألفاظ، والأفكار الواردة في النايل، تدل على أنثويته:
“اركض وراهم ركض
واخنك أجراس مطواحي
ثوبي تبلل عرك
من طول مشواحي”
فإضافة ياء المتكلم إلى كلمة مطواح، وهو أحد اشكال القلائد الذهبية، التي تتزين بها النساء تدل على أنثوية البيت.
ويمكن أن نميزه أيضا من خلال لباس الموصوف رجلا كان أم امرأة.
“لبسم رويشة حلب وكطوش لجلاهم
يعزيزين النفس للموت ماسلاهم”
“بشتك جناح الرخم بكل طايلة تومي
تستاهلون الحزن ياذيب.. الحزومي”
وقد تطفو العاطفة الأنثوية على الكلمة الشعرية فتشير إلى هوية البيت:
“لاحارب الحاربوك واجتل على شأنك
واحط ذرعاني درك.. واسند عن اركانك
ونلمس في بعض الأبيات حاجة الأنثى لمن يحميها، وتعيش بكنفه:
لمن نويت تعبر وصيت من بينا؟
مثل اليتامى بغرب عد من مخلينا؟
وتنفرد النساء بأحد الألوان اللحنية للنايل، الذي يحمل اسم “نايل الورادات أي “جالبات الماء”، ويمتاز هذا اللون اللحني بالسرعة، وأغلب أبيات النايل عاطفته ممزوجة بالحزن، وتظهر في كلماته المعاناة والشوق، والألم والحسرة، وينسجم ذلك مع طبيعة الأنثى وسيكولوجيتها؛ لذلك كان أغلبه من نظم النساء، وتقول إحدى روايات أصول النايل، أنه نظم من فتاة قالته بمدح رجل اسمه نايل.
