السياسةُ ولعبةُ الخياراتِ البديلةِ

تقرير/ رامان آزاد –

العملُ السياسيّ في جوهره يقومُ على إيجادِ الخياراتِ البديلةِ، وهذا هو تماماً معنى “فنُ الممكن”، وعدمُ توفرِ الخياراتِ يعني عُقمَ الجهدِ السياسيّ، وهذا حالُ الائتلافِ السوريّ الذي انحصر عمله بتلقّي الإملاءاتِ.

الصورة النمطية

التغيّرُ هو سِمةُ العملِ السياسيّ، وكثيرون يعتقدون أنّ التغيّرَ هو انقلابٌ على الذاتِ، والقضيةُ ليست كذلك، وسأوضحُ الفكرةَ أكثر: منذ بدايةِ الأزمةِ السوريّةِ وكلُّ طرف له أسلوبه السياسيّ وطريقة عمله وعلاقاته وحاضنته الشعبيّة، فتشكلت لدى الأطرافِ المقابلةِ صورةٌ نمطيّةٌ عنه، أصبحت معياراً أساسيّاً للتكهنِ بما سيُقدِمُ عليه، ولذلك قد تُمارسُ عليه ضغوطٌ أو سياساتٌ لدفعه إلى التوقعاتِ المحددةِ استناداً للصورةِ النمطيّة، فمثلاً كانت موسكو من وقتٍ لآخر تلمّحُ بتفهمِ حقوقِ الكردِ لاستدراجِ أنقرة، وكذلك تفعل تركيا في عمليات ابتزازها للدولِ بالضغط بورقةِ اللاجئين فتحصلُ على الصمتِ.

 تركيا وكلّ المرتزقة التي تواليها في أضعفِ مرحلةٍ قياساً بما سبق، وكلنا يتابع حالات التمرد والرفض للتعليمات التركيّة.

المرتزقة القادمون من المحافظات السوريّة ودخلوا في الكنفِ التركيّ ليسوا انتحاريين، بل لأنّهم فقدوا الخياراتِ البديلةِ ولم تبقَ إلا أنقرة حاضنةً لهم، لأنَّ القرارَ في موسكو ودمشق هو تجميعُهم، ومجرّدً التجميعِ يعني الاقتتالَ الفصائليّ أي احتمالَ الموتِ، فانتهزت أنقرة الفرصة وشكّلت ما يسمّى “الجيش الوطنيّ” وزجّت به في عفرين والعدوان على الشمال وأرسلت بضعة آلاف منه إلى ليبيا وربما أماكن أخرى.

قطعُ الأموالِ عن المرتزقةِ يعني ضغطاً من أنقرة عليهم لإعادتهم إلى بيتِ الطاعةِ وترويضهم، والتفجير في عفرين هو محاولةُ تخويفٍ للمرتزقة أنفسهم بعدما بدرت منهم ملامح الرفضِ.

 للآخرين صورٌ نمطيّة

أنقرة ليست في أفضلِ حالاتها لنتذكر ذلك جيداً، وهي لا تملكُ إمكانيّةَ الإنفاقِ على حربٍ مفتوحةٍ، ولنفهم الحدثَ الإدلبي جيداً واستجداء الهدنة بعد مقتلِ عشراتِ الجنود الأتراك، أردوغان يدرك هشاشة هدنة موسكو، ولهذا عزّز الوجودَ التركيّ العسكريّ بمنظوماتِ دفاعٍ جويّ ليقيمَ حظراً جويّاً فوق المحافظة، ولكن احتمالاتِ التصعيدِ لا تعني بالضرورة حرباً ولا علامة قوة، بل هو أسلوبُ أردوغان للابتزازِ السياسيّ، لأنه لا يحتمل فاتورة الحرب عندما تتعلقُ بعودةِ جنوده مُحمّلين في توابيت.

فهمُ التناقضاتِ التركيّة يعني العملَ عليها لتعميقها، وفهمُ البراغماتيّةِ الأمريكيّةِ يعني عدم التحولِ إلى أداةٍ.

فهم الخطةِ الروسيّةِ “ضرب الخصم بالخصم” وفق خبراتِ حربِ الشيشان يعني محاولةَ النأي بالنفسِ ألا تكونَ أحد هذه الأطرافٍ المتصارعة.

الخيارات الاحتياطيّة

في الوقتِ الذي استغرق فيه الآخرون بالصراعِ المسلح طُرح في شمال سوريا مشروع الحلِّ السياسيّ لإنهاءِ الأزمةِ، وهذا الفرق كبيرٌ جداً في سعةِ الأفق السياسيّ وتأكيدٌ للاستقلاليّة.

نجاحُ السياسةِ يتوقفُ على ادخارِ خياراتٍ احتياطيّةً، يتمُّ اللجوءُ إليها في توقيتٍ مفصليّ، ومن شأن هذه الخياراتِ أن تربِكَ الآخرين إذ لا تكون محلّ التوقعِ، وقد تستدعي اتخاذَ خطوةٍ جريئةٍ من جانبٍ واحدٍ دونما انتظار.

الخيارُ الاحتياطيّ يعني كسرَ الصورةَ النمطيّةَ بالاستنادِ إلى رصيدِ القوةِ السياسيّ والحاضنة الشعبيّة بالتوازي مع القوةِ العسكريّةِ، ويتميزُ بالجرأةِ لدرجةِ الصدمةِ، ما قد يقلبُ الطاولةِ على الجميع، ويغيّرُ معطياتِ الواقعِ السياسيّ، قد لا يختارُ البعضُ هذا التوجّه ويعتقدون أنّ أي تغييرٍ هو تنازلٌ، والصحيحُ أنّ لعبةَ السياسةِ لا تثبتُ على حالٍ، ولطالما قالوا “لا اعداءَ ولا أصدقاءَ دائمون، وإنّما مصالح”.

اليوم يُطرحُ السؤال بشكلٍ واسع ما الخياراتُ البديلة؟ ونقول مجدداً لدينا من رصيدٌ مجتمعيّ وكذلك من القوة ما يكفي، ولكن الرصيدَ يحتاجُ استثماراً فاعلاً لينجحَ المشروعُ، والمقاومةِ التي ستستمر على أكثر من صعيد، هي ميدان استثمار هذا الرصيد، فيما الآفاق السياسيّة مفتوحة على احتمالاتٍ كثيرةٍ، وانسداد الآفاق لا يعني النهاية، فتلك عادة اللعبة السياسيّة، تتأرجح بين المبادرة والتمنع، لتحصيل شروطِ التفاوضِ.

الرصيد المجتمعيّ

فيما مضى من الوقتِ كانت الإجابةُ كلما طُرح السؤالُ حول عفرين وهل يمكن العودة إليها؟ أنّ ذلك ممكن جداً، عبر التعاملِ مع “فائضِ المساحةِ”، بالتوازي مع مجهودٍ مكثّفٍ في الجانبِ المجتمعيّ. وكان ذلك قبل العدوان على تل أبيض ورأس العين. والعدوانِ استهدف المساحة فتقلصتِ نسبيّاً وتعددتِ القواتُ بتلك المنطقة وجرى تدويلها. فيما يستمرُّ العملُ حتى اليوم على اختراقِ البنيةِ المجتمعيّةِ لإحداثِ فتنةٍ تكونُ فرصةً لإحياءِ الإرهابِ والإطاحةِ بإنجازِ التحريرِ.

ولكننا نملك جملة من الفوائض، وفي مقدمها فائضُ الرصيدِ المجتمعيّ، وكذلك القوة وحتى فائض الزمن رغم كلّ الألم، ومتوهمٌ من يعتقدُ أنّ الحكومات السياسيّة تمتلك دائماً الوقت، بل لديها سقفٌ زمنيّ لتنفيذ سياساتها وإلا فهي معرضة لخسارة رصيدها الشعبيّ أو خسارةِ الانتخاباتِ أو استمرارِ الأزماتِ، وفي كلِّ التجارب الإنسانيّة كان الزمن دائماً لصالح الشعوبِ.

 نحن شعبٌ منضبط

ما يجب قوله إننا نملك من رصيد الخياراتِ ما يكفي لتجاوز المحن وتحرير المناطق التي تحتلها تركيا، والحرب جولات ولكلّ جولة ظروفها وحساباتها الميدانيّة والسياسيّة، ويجب أن نعلم أنَّ حجم الدعم والتمويل والتسليح الذي تم تقديمه لما يسمى الجيش الحر كان استثنائيّاً علاوة على الغطاء السياسيّ اعتباراً من الاحتضان العربيّ وانعقاد سلسلة مؤتمرات باسم أصدقاء سوريا، والاستنفار الإعلاميّ الكبير، ولكنها انتهت إلى جغرافيا محدودة وأضحت رهينة الأوامر التركية، ولهذا نقول من غير مبالغة أننا تجاوزنا كثيراً من العقبات اعتماداً على الطاقات الذاتيّة، ونملك خياراتنا التي تعبر عن إرادة شعبنا والوفاءِ لرسالة الشهداء.

عاملُ الوقتِ مهم جداً، ونحن شعبٌ منضبطٌ جداً، ونجاحنا حتى اليوم في اختبار كورونا وحماية مناطقنا حتى المخيمات يثبت ذلك تماماً. لم ننجح بفضلِ السياسيين ومجرد الإدارة، لنقعَ في خطيئة توصيفِ الإدارةِ بالشموليّة، بل نجحنا بكاملِ الكيانِ المجتمعيّ والمؤسساتيّ وهذه مسألةٌ يمكنُ البناءُ عليها لتجاوز المعوقات وتصحيح الأخطاء وترميم الثغرات. والمطلوبُ تخفيفُ البيروقراطيّةِ ومزيدٌ من الشفافيّةِ والتقنينُ في الإنفاقِ العامِ ودعمُ المهجرين والمعوزين.

والبدايةُ من توطينِ الإنجازاتِ ضدَّ الإرهابِ أي اعتبارها إنجازاتٍ سوريّةً وطنيّةً، وهو ما يجب تطبيقه على مسائل أخرى لبناءِ جسور الثقةِ والتواصلِ مع السوريين إجمالاً….

ظروفُ الحظرِ قد تمنعُ بعضَ النشاطاتِ ولكنها لا تمنعُ التواصلَ… وهذا كله يتطلبُ إيقاعاً اعلاميّاً قوياً متحرراً من القوالبِ ويعتمدُ المباشرة بالخطابِ والشفافيّة.