تشكّلُ الحروبُ القسم الأعظم من التاريخ البشريّ، ولم يثبت أنّ البشريّة عاشت مراحل من الدعة والسلام خاليةٍ من النزاعِ، بل شكّلتِ الحروبُ مفاصلَ انتقالٍ في تطورِ الدولِ وتشكّلِ الممالكِ الكبرى والإمبراطورياتِ وسقوطها، وكذلك انتقال الحكمِ في البلدِ الواحدِ، وإذا كانتِ الحياةُ في صورتها المسالمةِ تجسّدُ قانونَ الفطرةِ الطبيعيّ المثاليّ، فإنّ الحروبَ على الدوام كانت بحاجةٍ إلى أساسٍ أيديولوجيّ يبررُ إهراقَ الدمِّ وإزهاقَ الأرواحِ، وفُرِض ذلك على الناسِ أنّه قدرٌ لا مفرَّ منه.
هل الإنسانُ كائنٌ متوحشٌ بطبيعته
لا أريدُ أن أكونَ متشائماً في زمنٍ أصبح فيه كلُّ شيءٍ قابلاً للاشتعالِ والإحراقِ والانفجارِ؛ والسببُ في ذلك على الأقلِ أنَّ مصيرنا لم يعدّ مُتصلاً بإراداتنا الفرديّةِ بوصفنا كائنات مُسالمة أو (ودِيعة) كما سَخِر أحدهم من دعاةِ السلامِ اليوم، وإنّما مصيرنا معقودٌ بسياقاتِ الكراهيةِ والتسيُّدِ (الاستبداد) وظلمِ الإنسانِ لأخيه الإنسانِ في ترادفٍ تامٍ مع مقولةِ توماس هوبز الأشهر “الإنسانُ ذئبٌ لأخيه الإنسان”. وإن كان لنا – نحن دعاةَ السلامِ الداخليّ والخارجيّ – فخرٌ يمكنُ أن نضعه نيشاناً على صدورنا فهو دعوتنا الدائمةُ إلى السلامِ والحوار فهما السبيلان إلى إدارةِ أيّةِ أزمةٍ كيفما كان نوعها.
لكن هذه الحرب التي تشتعلُ نيرانها بهدوءٍ تام، وبكثيرٍ من الكذبِ والشائعاتِ وصناعةِ الخوفِ وعبادةِ القوةِ والغطرسةِ والأنانيِّة، هل يعني أنّ الإنسانَ كائنٌ متوحشٌ بالطبيعةِ، وبالتالي نسقطُ بأيدينا كلَّ أملٍ في السلامِ الدائمِ؟ بصيغةٍ أخرى: هل يمكنُ الكشفُ عن التلازمِ بين غريزتي العدوانِ والتدميرِ من جهةٍ، وغريزةِ الحبِّ والرغبةِ في الحياة من جهةٍ ثانيةٍ؟ وهل يمكنُ أن تزولَ غريزةُ العدوانِ فتحلَّ محلَّها الصداقةُ وتزولَ الكراهيةُ لتحلَّ محلَها المحبةُ؟ أي هل يمكنُ القضاءُ على الحربِ فعلاً؟
أينشتاين: النزعةِ التدميريّة في النفسِ البشريّة
في بدايةِ القرن العشرين تبادلَ الفيلسوفُ وعالم الفيزياء والرياضياتيّ ألبيرت أينشتاين (1879- 1955) وجهاتِ النظرِ حولَ الحربِ مع الطبيبِ والمحللِ
النفسيّ سيغموند فرويد (1856-1939) في مناظرةٍ تاريخيّةٍ تناولت سؤالَ الحربِ وأسبابها، ومما أكّده أينشتاين أنّ “مجالَ النشاطِ البشريّ الأكثر أهمية بالنسبةِ لمصيرِ الأممِ هو بلا شكٍّ في يدِ حكامٍ سياسيين غير مسؤولين كليّاً”، وإنّ “القادة السياسيين أو الحكوماتِ مدينون بسلطتهم إمّا لاستخدامِ القوة أو لانتخابهم من قبلِ الجماهيرِ، ولا يمكنُ اعتبارهم ممثلين للعناصرِ الأخلاقيّةِ أو الفكريّةِ الفائقةِ في الأمة”. مؤكّداً أنَّ النخبةَ المثقّفةَ بانقسامها يستحيلُ عليها التعاونُ لحلِّ المشكلاتِ.
كما يُرجّحُ ألبيرت أينشتاين أنَّ خطرَ الانحطاطِ بصفةٍ عامةٍ “حاضرٌ على الإطلاقِ بسبب عيوبِ الطبيعةِ البشريّةِ، ومع ذلك، وعلى الرغمِ من تلك المخاطر، ألا ينبغي لنا أن نبذلَ على الأقلِ محاولةً لتشكيلِ مثل هذا الارتباطِ على الرغم من جميعِ المخاطر؟ يبدو لي أنّ هذا أقل من واجبٍ حتميّ!». وفي كثيرٍ من المواضِع يتحدثُ أينشتاين عن نزعةِ الكراهيةِ والتدميرِ التي تسكنُ الإنسانَ، وتنمو بداخله؛ فحيثُ «في الأوضاع العاديةِ، يكونُ هذا الميلُ مستتراً ولا يظهرُ سوى في الظروفِ غير المعتادةِ، إلاّ أنَّ استدعاءه وترقيته إلى سلطةِ الهوسِ الجمعيّ مهمةُ سهلةُ نسبيّاً. وربما يكمن، هنا، صلبُ كلِّ التشابكِ بين العواملِ التي نضعها في الاعتبارِ، لغزٌ يمكنُ للخبيرِ في العلمِ المختصِّ بالغرائزِ الإنسانيّة، وحده، أن يحلَّه”، يقصدُ هنا المحلّلَ النفسيّ سيغموند فرويد.
ثم يطرحُ ألبيرت أينشتاين سؤالَه العريضَ والقلقَ: هل التحكّمُ في التطورِ العقليّ للإنسانِ أمرٌ ممكنٌ في سبيلِ الصمودِ أمام الاختلالاتِ العقليّة للكراهيةِ والدمار؟ موجّهاً في الآن نفسه نقده للمثقفين من كونهم لا يصلُون إلى الحياةِ الحقيقيّة، فهم أكثر عرضةً للإذعانِ للمقترحاتِ الجمعيّة التدميريّة، لأنّهم يتعرفون على الحياةِ عبر المطبوعاتِ وأشكالها الاصطناعيّة. من ثمّةَ يعرضُ ألبيرت أينشتاين مشكلةَ السلامِ العالميّ على سيغمُوند فرويد في ضوءِ اكتشافاته للنزعةِ التدميريّة في النفسِ البشريّة، وكيف يمكنُ النظرُ إلى هذا السلامِ العالميّ، مرجّحاً أنّ هذا النظرَ سيكون مثمراً ونافعاً، وسيأتي بأنماطِ عملٍ جديدةٍ وجيدةٍ.
فرويد: العنفُ غريزةٌ تدميريّةٌ في الإنسانِ
كان ردّ عالم النفس سيغموند فرويد عن التساؤلاتِ السابقةِ التي طرحها ألبيرت أينشتاين بتعبيرِ المفاجأةِ، حيث قال فرويد: “قد فاجأتني بطرحِ سؤالٍ عمّا يمكنُ القيامُ به من أجلِ حمايةِ البشريّةِ من لعنةِ الحربِ، وقد كنتُ خائفاً في البدايةِ من فكرةِ عدمِ أهليتي (كدت أكتب عدم أهليتنا) للتعاملِ مع ما بدا أنّه مشكلةُ عمليّةٌ، من شأنِ رجالِ الدولةِ، لكنني أدركتُ بعد ذلك أنّكَ لم تطرحِ السؤالَ بصفتك عالم طبيعةٍ وفيزيائيّاً، وإنّما بصفتك مُحباً للخيرِ يحذو حذوَ عصبةِ الأممِ، مثلك في ذلك مثلُ المستكشفِ القطبيّ فريتيوف نانسين، الذي أخذَ على عاتقه توصيلَ المعوناتِ إلى ضحايا الحرب العالميّة المشردّين الجائعين”.
تكمنُ مفاجأةُ فرويد أمام أينشتاين أنَّ الحربَ لا حلَّ لها، وأنَّ البشريّةَ بنزاعاتها التدميريّة ماضيةٌ إلى الحروبِ، كما أنَّ هناك تلميحٌ صغيرٌ إلى أنَّ العلماءَ لا دخلَ لهم في صناعةِ السلامِ العالميّ، فهم في أقوى مواقفهم أو مكانتهم يتحولون إلى كائناتٍ مُحبّةٍ للخيرِ فقط.
رُغم ذلك حاول فرويد أن يجيبَ عن الأسئلة من خلال تأملٍ فلسفيّ سيكولوجيّ في مفهومي الحقِّ والقوةِ، فرغم تناقضهما إلا أنَّ أحدهما ينجمُ عن الآخر؛ فتسويةُ المصالحِ بين البشرِ غالباً ما تتم عن طريقِ العنفِ، منذ القوةِ العضليّةِ الفائقةِ إلى الأسلحةِ. “ومن اللحظةِ التي اُستحدثت فيها الأسلحةُ، بدأ التفوقُ الفكريُّ يحلُّ محلَّ القوةِ العضليّةِ الفائقةِ، بينما بقي الغرضُ الأساسيُّ من المعركةِ واحداً: أن يجبرَ أحد طرفي الصراعِ الآخرَ بالتخلّي عن مطلبه أو اعتراضه نتيجةَ تقويضِ قوته وإضراره، ومن شأن هذا الغرضِ أن يتحققَ تماماً، إذا قضى عنفُ المنتصرِ على العدوِ بشكلٍ دائمٍ، بتعبير آخر: قتله”. وإن كان سيغموند فرويد يعدّدُ فوائدَ القتلِ التي حددها في فائدتين وهما: أولاً، أنَّ العدوَ لن يفكرَ في المعارضةِ مرة أخرى، وثانياً، أنّ قتله سيُرضي غريزةً ما. فإنّه – فرويد – ينبهنا إلى مشاعرِ الخوفِ العدائيّة التي تكونُ لدى المنتصرِ عند إخضاعِ العدوِ بدلاً عن قتله، ليفكرَ المنتصرُ دائماً في مشاعرِ العدوِ ورغبته المتواريةِ في الانتقامِ، وهكذا فإنّه يضحي بجزءٍ من أمانه الشخصيّ، وهكذا تعيشُ البشريّةُ في صراعٍ دائمِ، خفي أو ظاهر، إنّه سلمٌ مقرونٌ بالحربِ، وجهان لعملةٍ واحدةٍ، أساسه العنفُ المدعومُ بوسائل حربيّة مفكر فيها، حتى إنّنا لا يمكنُ أن نعرفَ هذا الإنسانَ بكونه كائنٌ مفكّرٌ في الحربِ. فما العملُ من أجلِ تحقيقِ السلمِ العالميّ؟
صحيحٌ أنّ سيغموند فرويد يضعُ حلاً لبلوغِ الحقِّ ثم القانون، وهو طريقُ القوةِ العليا للأفرادِ باتحادِ عددٍ من الضعفاءِ، وصحيحٌ أنَّ الحقَّ هو قوةُ المجتمعِ، لكن سرعان ما يتحولُ هذا المجتمعُ (المجموعة) إلى عنفٍ من جديدٍ يوجّه ضدَّ أيّ فردٍ يقاومه، مستخدماً – كما يقول فرويد – الوسائلَ نفسَها، سعياً وراءَ الأغراضِ نفسها، إلاّ أنَّ المفارقةَ هنا أنَّ المنتصرَ لم يعد هو الفردُ، بل المجتمع / المجموعة. ولكي يتحققَ ذلك يجب أن يُقضى على الفردِ من أجلِ المحافظةِ على المجتمعِ (المجموعة) بشكلٍ دائمٍ. فتنشأ في المجتمعِ تعبيراتٌ غير متساويةٍ من حيازةِ القوةِ بداخله.. فيحدثُ صراعٌ جديدٌ.. وهكذا.
أما الخلاصة التي يخلصُ إليها سيغموند فرويد فهي نفسها التي توصلَ إليها ألبيرت أينشتاين وهي التأكيدُ على تشكيلِ هيئةٍ مركزيّةٍ يكونُ لها حقُّ الفصلِ في كافةِ صراعاتِ المصالحِ، غير أنَّ س. فرويد يضعُ مطلبين واضحين منفصلين ضروريين لتحقيقِ هذا الأمرِ، وهما: إنشاءُ هيئةٍ عليا ومنحُها السلطةَ اللازمةَ، لكن يعودُ فرويد من جديد ليؤكّد على حقيقته العلميّة وهي أنّ العنفَ غريزةٌ تدميريّةٌ في الإنسانِ!!
الحرب.. أو السَّلام المسلّح
إذا ما افترضنا جدلاً أنّ هناك هويةً للشخص، فإنَّ كلَّ هويةٍ في سياقاتِ الحربِ يكون لها نصيبٌ من التوحّشِ والعِداءِ على حياةِ الآخر، اللهم الهوياتُ المسالمةُ التي ترتفع بسلميتها إلى صفِّ الإنسانية. من هنا تأتي صورةٌ من صورِ صراعِ الهوياتِ وتقاتلها، وكان الفلاسفةُ، ومنهم نيتشه مثلاً، يرون أنّ الحربَ هي الأصلُ، وما أشكالُ السلمِ القائمةِ بين الحينِ والآخر إلا أشكالٌ تضليليّةٌ، هشّةٌ، مؤقّتةٌ، لأنّه “سلامٌ مُسلّحٌ” بمعنى آخر “كلُّ دولةٍ تمتلكُ جيشاً تتعهدُه لتلبيةِ رغبةٍ محتملةٍ في القيامِ بغزوِ” بلدٍ آخر، بصرفِ النظر عن هذه الدولةِ المغزُوة هل هي دولةٌ ظالمةٌ، أم صاحبةُ حقٍّ، وهل الحربُ دائمةٌ ناجحةٌ، والغازي منتصرٌ دائماً، من دونِ عدِّ الأمواتِ والخسائرِ وكسبِ كراهيةِ الناسِ بالمجانِ، أم ماذا؟ وإذا كانتِ الدولةُ المسالمةُ حقاً وتاريخيّاً لا تلجأ إلى إقامةِ جيوشها إلاّ من أجلِ الدفاعِ عن نفسِها وأرضها وحقوقها التاريخيّةِ فإنَّ كثيراً من الدولِ تلجأ إلى المبررِ نفسه من أجلِ التوحّشِ على جيرانها قبل أباعدها، ما يعني أنّ الحروبَ قائمةٌ ولكن مع إيقافِ التنفيذِ!