التعليم باللغة الأم في ظروف التهجير… وجه آخر للمقاومة

تحقيق/ باهوز أحمد –

---

الطفلة ياسمين في ربيعها الثاني عشر، تسير وفي يدها كيساً بلاستيكياً يضم عدة دفاتر وكتب وأقلام، ورغم تغير الحال عليها عما كان في عفرين، إلا إنها تظل مبتسمة وهي تتحادث إلى رفيقاتها في طريقهن إلى المدرسة القريبة من مكان إقامتها في قرية الأحداث، وفي خطوات تحمل الأمل بالعودة إلى ربوع مدينتها، تربت الفتيات الصغيرات اللواتي عايشن ظروف الحرب والتهجير القسري في عفرين؛ واليوم يتابعن دراستهن في مكان شبه مدمر، بعد ان دئبت لجنة التدريب والتعليم الديمقراطي على ترميم ما أمكن من مدارس.

75 مدرسة فتحت أبوابها لطلبة عفرين والشهباء

أكثر من اثني عشر ألف طالب وطالبة يتوجهون للمدارس التي تم افتتاحها في قرى شيراوا والشهباء واستضافت الطلبة المهجرين من عفرين، حيث بلغ عددها أكثر من 64 مدرسة، إضافة لأحد عشر مدرسة خاصة بأبناء مقاطعة الشهباء، وبدأت لجنة التدريب وتعليم المجتمع الديمقراطي العمل على ترميم المدارس المتواجدة، والبحث عن أبنية سكنية صالحة للدراسة فيها، وفي بعض الأماكن تم نصب بعض الخيم داخل الأبنية الواسعة، وغالبية هذه الأبنية التي تم افتتاحها كمدارس هي أبنية غير مكتملة البناء أو مدمرة بشكل جزئيٍ تم صيانة ما أمكن منها بغية متابعة الطلبة دراستهم فيها.

وقال الإداريون في لجنة التدريب: “إن العمل بدأ بعد انتهاء العام الدراسي الماضي والذي تم في الخيم التي توزعت بالقرى المختلفة، لكن مع بداية العام الدراسي الجديد والظروف الجوية السيئة في الشتاء، كان لا بد من البحث عن حلول أخرى في ظل تعرض غالبية مدارس الشهباء للقصف والتدمير، وعدم وجود مدارس في بعض القرى، وبهذا بدأ العمل والبحث عن بعض المنازل وحتى في بعض الأحيان قدم نازحوا عفرين المنازل التي سكنوها للجنة التدريب والتعليم بهدف افتتاح المدارس لأطفالهم ومتابعة دراستهم”.

مدرسة بابنس نموذج التنظيم والتعليم

ومن بين هذه المدارس التي تجولت صحيفتنا في أرجائها، “مدرسة بابنس” للتعليم الإعدادي والثانوي، وتتألف المدرسة من ست غرف ضمن بناء غير مكتمل (على العضم) ويجلس الطلبة على بعض الحُصر والبطانيات المفروشة على الأرض، وسط هطول الأمطار في الخارج، وغالبية هذه الغرف بدون نوافذ أو أبواب، لكن هناك ما يقارب عن 250 طالبة وطالبة موزعين على فترتين للدوام الصباحي وبعد الظهيرة يتابعون تحصيلهم العلمي.

ويقول الطالب محمد من أهالي ناحية شيراوا: “أنا أقطن مع أهلي في قرية تل الشعير، التي تبعد عن قرية بابنس مسافة 8 كيلومترات، وأتيت إلى هنا لأتابع دراستي التي أجبرتنا الحرب وظروف التهجير على الانقطاع عنها لفترة ستة أشهر متواصلة. ولكن؛ اليوم نعاود دراستنا وبلغتنا الأم ولم يتغير الحال علينا”، لكن تبقى فرحة هؤلاء الطلبة ناقصة، إذ أن غالبية أصدقاء الدراسة تشتتوا ولم يبقَ منهم إلا القليل، رغم إنهم عوضوا ذلك بأصدقاء جدد، ومن مناطق متعددة من مقاطعة عفرين، إذ يدرس أهالي عفرين معاً والعديد منهم من قرى مختلفة وربما بعيدة عن بعضها البعض جغرافياً، إلا إنهم التقوا في ظل النزوح والتهجير وكوّنوا صدقات جديدة، على أمل العودة القريبة لقراهم ومدراسهم التي تحولت اليوم في ظل الاحتلال إلى مقار عسكرية وأماكن للتعذيب وتغير المناهج في البقية المتبقية بحيث فقدت جوهرها وتمثيلها لحقيقة عفرين وأهلها.

وهنا تقول المعلمة دجلة وقاص الإدارية في مدرسة بابنس: “إن إقبال الطلبة على المدارس التي افتتحتها لجنة التربية والتعليم كان جيداً وهو في تحسن مقارنة مع الفصل الدراسي الثاني للعام الماضي، ويلتحق بمدرسة بابنس للتعليم الإعدادي والثانوي 250 طالبة وطالبة، موزعين على الصفوف الدراسية من الصف السابع إلى الصف الثاني عشر”، وتُشير دجلة إلى أن المدرسين في المدراس كافة اجتازوا فترة تدريبية اختصاصية وبهذا بات اليوم أكثر المدرسين ذوو كفاءة وقدرة أكبر على التعليم، وهذا أثر بالإيجاب على العملية التعليمية في ظل عدم توفر النواقص التكنيكية”.

نواقص تكنيكية لا تمنعهم من متابعة دراستهم

 ومن النواقص التي تعانيها المدارس الإعدادية والثانوية هي عدم حصول الطلبة على الكتب المختلفة، والسبب بحسب الإدارية دجلة أن الكتب التي طبعت في إقليم الجزيرة لم تصل إلى الشهباء بعد وهي في طريقها، والسبب بحسب بعض المصادر الخاصة إن النظام يمنع دخول بعض المواد إلى الشهباء ومن بينها الكتب المدرسية، رغم إن دفعة من الكتب الخاصة بالمرحلة الابتدائية وصلت إلى المقاطعة، وتم توزيعها على المدراس عامة، إضافة لكتب المكون العربي التي خُصِصت صفوف خاصة لهم في مناطق مختلفة، وتكمن الأهمية القصوى للمدرسين هنا في تلقي الطلبة لدراستهم، وتتابع دجلة حديثها لصحيفتنا: “دائما كنا نقول إننا سنتابع مسيرتنا التربوية في الظروف كافة، سواء في الأبنية غير المكتملة أو تحت الأشجار، وهذه المقولة تم تطبيقها في الشهباء، واليوم نتابع مسيرتنا وفق المنهاج الذي يحمل فكر الأمة الديمقراطية والذي بدأنا به في عفرين منذ أكثر من أربع سنوات، اليوم نتابع مقاومتنا مع الطلبة وأبناء عفرين تحت هذه الأسقف غير المهيأة لأن تكون مدارس”. وتؤكد دجلة وقاص على أن هناك طلبة ذوو مستوى دراسي يستحق التقدير، وإن بعض الطلبة بدأوا بإعطاء المحاضرات في شتى المجالات التي يهتمون فيها، وهذه خطوة جيدة لبناء جيل طموح وذو مواهب متعددة في ظل الاحتلال والتهجير.

ويختلف العام الدراسي هذا عن النصف الثاني من العام الماضي الذي تابعه طلبة عفرين بعد التهجير، إذ يهدف القائمون على العملية التربوية لأن يتلقى الطلبة كامل المنهاج الدراسي المحدد، مع إمكانية توفير حصص أكبر للترويح عن الطلبة، وعدم الضغط عليهم نفسياً، لأن هؤلاء عايشوا الحرب والتهجير ولا بد من إيجاد فسحة أمل لهم عبر الحصص المتنوعة من الرياضة والفن والموسيقى، والتأكيد على متابعة المقاومة وزرع روح الارتباط بالوطن والأرض فيهم للعودة القريبة إلى عفرين وتحريرها.

الدراسة أولاً….. رغم كل المعوقات

تعاني غالبية الأسر العفرينية المهجرة من حالة مادية سيئة جداً، وهذا يظهر جلياً في حمل الطلبة بمختلف الأعمار دفاترهم وكتبهم في أيدهم او أكياس من البلاستيك، وعدم قدرة العائلات على شراء الحقائب أو حتى الدفاتر اللازمة، وتقول دجلة وقاص في هذا الصدد: “الحالة المادية المزرية لمهجري عفرين غنية عن التعريف، لهذا قمنا بتوزيع دفعات من الأقلام والدفاتر بشكلٍ مجاني على الطلبة، ولكن هذه الدفاتر لا تفي بالغرض وكانت قليلة مقارنة مع حجم المنهاج”.

وبحسب الأسعار المتوفرة في الشهباء، فتتراوح الدفاتر المدرسية بين /600-2200/ ليرة سورية أي إن كل طالب يحتاج إلى ما لا يقل عن خمس دفاتر بحسب المنهاج المتوفر، هذا ناهيك عن الحاجيات الأخرى للطالب من مصروف يومي والذي لا تبخل الأسر العفرينية به عن أبنائها رغم عوزهم، وغالبية الأسر لا تمتلك دخلاً ثابتا في ظل النزوح وإن وجد فالدخل الشهري لا يتعدى الخمسين ألف ليرة سورية أي ما يعادل 110 دولار أمريكي، وهذا المبلغ يجب تقسيمه على كافة الحاجيات للأسر، فهل يكفي كمصدر رزق في ظل عدم تقديم المنظمات الإغاثة الشهرية؟ والتي تقتصر على سلة غذائية بمقدار 20 ألف ليرة سورية وتخصيص مبلغ 4000 ليرة لكل شخص شهرياً من قبل الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم عفرين.

التحضير لتوفير التدفئة والموصلات المجانية

هذه المدرسة ليست الوحيدة التي يرتادها الطلبة، مدرسة غرناطة أيضاً يتابع الطلبة البالغ عددهم 280 طالبة وطالبة تعلمهم فيها، ضمن خيم تم نصبها في مباني كبيرة والسبب هو تقسيم الصفوف وتوفير جزء من الدفء لهم في ظل هذه الظروف الجوية الحالية، في الوقت الذي لم يتم تخصيص مصدر التدفئة بعد.

وبحسب معلومات حصلنا عليها من إدارة لجنة التربية وتعليم المجتمع الديمقراطي، فهم بصدد توفير مصادر التدفئة وتوزيعها على المدارس؛ بهدف توفير الظروف المناسبة للتعليم ضمن المدارس في الشهباء، مع التنبيه على توفير الظروف التعليمية كافة ولا سيما التركيز على تدريس اللغة الأم، للمكونين العربي والكردي على حد سواء، بالإضافة للغات الأجنبية (الإنكليزية والفرنسية)، وهنا يتضح انه رغم النزوح والتهجير يحرص القائمون على العملية التعليمية في الشهباء على ضمان حق التعليم باللغة الأم للمكون العربي أو الكردي والتركماني.

كما خصصت إدارة لجنة التربية والتعليم وسائط نقل خاصة لطلبة المرحلة الثانوية والإعدادية، لنقلهم من بعض القرى إلى أخرى بهدف تلقي الدراسة بسبب أعداهم التي تتراوح بين 300 و400 طالب، ولا يمكن فتح المدارس الإعدادية والثانوية في كافة القرى. لذا؛ يتم تأمين المواصلات بالمجان لهؤلاء الطلبة.

المقاومة مستمرة

وفي نهاية المطاف، وبعد مضي شهر على افتتاح المدارس أبوابها أمام طلبة عفرين المهجرين، يتضح للعيان إن هؤلاء الطلبة بمختلف الأعمار يجمعهم شيء واحد وهو الحب للعلم والاستمرار في متابعة حياتهم ومقاومتهم، رغم الجروح التي خلفها في صدورهم الاحتلال في عفرين، وهذا كله يترجم كنوع آخر للمقاومة في طريق التحرير والعودة القريبة، وهذا ما نلمسه بالقول والفعل لدى كل أهالي عفرين.