رامان آزاد-
تجاوزت أهدافُ الهجمات العسكريّةِ التي شنتها تركيا على مناطق شمال سوريا مجردَ احتلالِ الأرضِ، والاستيلاءِ على مُقدراتها، وقيادةِ المرتزقةِ، ليتضحَ أنَّ التغييرِ الديمغرافيّ أهمُ الأدواتِ لإدامةِ الاحتلالِ، وهو استمرارٌ لمشروعٍ يعودُ في جذوره إلى “خطةِ إصلاح الشرق” على الأراضي التركيّة، التي ابتدعها أتاتورك عام 1925، وعمِل أردوغان على نقلِ ميدانها إلى شمالِ سوريا.
استهدافُ بينةِ المجتمعِ بقانونٍ
لم تقم الجمهوريّة التركيّة التي خرجت من الثورة الوطنيّة على أساسِ أنّها دولة قوميّة، أحاديّة اللغة والثقافة والعرق، بل على أساس البُنى الإثنيةِ التعدديةِ وفي مقدمتِها الكرد، وأُضفِيَت عليها مثلُ هذه المعاني. علاوةً على أنّ هويةَ الكادحين وهويةَ الأمةِ الإسلاميةِ كانتا تُعتَبَران هويتَين مؤسِّستَين، وتعهد أتاتورك بالاعتراف بالكرد ومنحهم مساحة أكبر مما حددتها اتفاقية سيفر التي عقدت في 10/8/1920، وبلغ عدد النواب في المجلس الوطنيّ الكبير 72 نائباً، إلا أنّ حكومة أنقرة توصلت بعد جولاتٍ من التفاوضِ مع الدول الغربية فرنسا وبريطانيا إلى اتفاق لوزان في 24/7/1920 وتم بموجبها الالتفاف على معاهدة سيفر، بعبارات فضفاضة، أشارت إلى الحقوق الكرديّة بشكل ضبابيّ دون ضمانة واضحة، على أنهم مواطني الدولة. ولكن سرعان ما تنكر مصطفى كمال أتاتورك للتعدديّة الإثنيّة والسياسيّة، وبات الكردُ هم “أتراك الجبال”، وبدأ التضييق عليهم ومنعُ لغتهم وثقافتهم.
وانطلقت في هذه الظروف ثورة الشيخ سعيد بيران في 21/3/1925، وهي ثورة أو انتفاضة كرديّة ضد الحكم التركيّ “بهدف استقلالِ الكردِ الذين تعرّضوا للإنكار”، وكان الشيخ سعيد بيران من شيوخ الطريقة النقشبنديّة، ولديه تأثيرٌ كبيرٌ على مريدي الطريقة، وأُخمدت الثورة باستخدامِ مفرطٍ للقوةِ، وإعدام قادتها وفي مقدمهم الشيخ سعيد.
تم إنشاء ما سُمّي مجلسُ الإصلاح في 8/9/1925 من قبل مصطفى كمال أتاتورك، وترأسه عصمت إينونو رئيس الحكومة حينها. عندما شعرت الدولة التركيّة الحديثة بالخوفِ على حدودِ الدولةِ المرسومةِ بموجب اتفاقية لوزان 24/7/1923، بسبب وجود الشعب الكردي في منطقة حدوديّة، قررت القضاء على مخاوفها بإعداد خطة كبيرة تمّت الموافقة عليها بين ثلاث جهات: رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ووزارة الداخلية”. وفي 25/9/1925 قدّم مجلس الإصلاح من أجل الشرق تقريره في الجمعية الوطنيّة الكبرى لتركيا. وأصدرها مصطفى كمال أتاتورك بمرسومٍ رئاسيّ بعدما أعدّت الحكومة تفاصيلها مجلس دون عرَضها على البرلمان خشيةً من معارضتها.
والسبب الرئيسيّ وراء هذه الخطة عرقلة انتشار الوعي القوميّ بين الكرد ومواجهته، ومنع قيام ثورات كرديّة أخرى بعد ثورة الشيخ سعيد بيران. فقد كانت حكومة أنقرة تتخوف من فقدان السيادة الجديدة، بعد سلسلة الخسائر التي منيت اعتباراً من سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة، وشكّل فيها الأتراك أقليّة قوميّة، ولذلك لم تكن اللغة التركيّة هي لغة السائدة بالكاملِ، وقد أُريد عبر هذا القانون استدراك ذلك النقصِ وفرضُ التتريكِ واحتلال المناطق الكرديّة لمنعِ حصولِ الكردِ على حقوقهم.
عمل مصطفى كامل أتاتورك، وبخداع سياسي للدول العظمى حينها، فرنسا وبريطانيا، وتحت عنوان القيام بإصلاحات في المناطق الكردية، على منع قيام أي حراك أو انتفاضة من خلال تطبيق إصلاح الشرق.
وادّعى معدو الخطةِ أنّها تهدفُ للحفاظِ على استقلاليّة الجمهوريّة التركيّة وأمنها، بعدما تقلصت حدودها إثر الحرب العالميّة الأولى، ولكن تبينت مع تنفيذ الخطة أبعاد مختلفة، لا تزال آثارها مستمرة حتى اليوم، إذ كانت محاولة لتغيير الجذور الثقافيّة والتاريخيّة والوجوديّة للشعب الكرديّ الذي حُرم من أبسط حقوقه في الحياةِ.
تضمنتِ الخطة جملة إجراءاتٍ ثقافيّة وسكانيّة وعسكريّة في باكور كردستان، التي تسميها أنقرة “جنوب شرق تركيا”، هدفها تذويبُ وصهرُ الكردِ في بوتقةِ الثقافةِ التركيّة الحديثةِ، ومنعهم من الحديث بالكرديّة في الأماكنِ العامةِ. باختصار هي “عبارة عن مخطط لإحداث تغيير ديمغرافيّ للشعب الكرديّ”.
خنقُ الحاضرِ ووأدُ المستقبلِ
وشمل “إصلاح الشرق” جانبين مهمين هما صناعة التاريخ، وصناعة اللغة، بهدفِ احتلال باكور كردستان، وبدأت معها أولى سياساتِ القمعِ الثقافيّة: منع اللغة والثقافة الكرديّة، وبدأ احتلال باكور كردستان من جميع النواحي. وفيما يتصل بغاياتِ إقرارِ الخطة والدوافع إلى تبنّيها، فقد كان الهدفُ من هذا القانون الذي اتخذته الدولة التركيّة بحق الكرد والشعوب الأخرى الأقل عدداً أن يصبحوا أتراكاً، ودمج الكردِ في النسيج الاجتماعيّ والثقافيّ التركيّ.
احتوت الخطة على إجراءات تستهدف تفتيت القوة المجتمعية للكرد وتشتيتها، ليتحولوا إلى جماعة ضعيفة، وبلا شك إصلاح الشرق كان مخططاً كبيراً وواسعاً لإزالة أي مساعي ورغبات مستقبليّة من الكرد للحصول على حريتهم، وإعاقة ظهور النخبة الكرديّة المؤثرة والمحرّضة على الثورةِ، وإعادة صياغة المجتمعات ونقل من تعتقد الحكومة أنّه قد يحبط سياساتها، وتوحيد مناطق شمال وشرق سوريا بتوزيعٍ إداري باسم “المفتشية العامة”، تدير المنطقة بالأحكام العرفيّة إلى أجل غير مسمى، وفُرض حظرٌ على اللغات غير التركيّة وتوظيف الكرد في “مكاتب المستوى الثاني” وتوفير سبعة ملايين ليرات تركيّة لإعادة توطين الكرد في مناطق أخرى، وشجّع التقرير عدة قوانين لإعادة التوطين وإنشاء ثلاث مفتشيات عامة تضمّ محافظات ذات أغلبية كرديّة.
تناول الأمير جلادت علي بدرخان في كتابه “قانون إبعاد وتشتيت الكرد”، مسألةَ قانونِ التشتيتِ والإبعادِ، أو قانونِ النفي، والذي أطلقت حكومة أتاتورك عليه الأتراك اسم “خطة إصلاح الشرق”. وقال فيه: “عددٌ هائلٌ من الجماهيرِ المنفية لم يقاوم أبداً هذا النفي، ويجهلُ السببَ الحقيقيّ والمشؤومَ لهذا الإبعادِ، واعتبره إجراءً محتوماً لظروفِ الحرب، ولقوا حتفهم جوعاً وبؤساً في الطريقِ”.