إدلب… تتأرجح في سوق المقايضات!!

تحقيق/ فيروشاه أحمد –

باتت اللعنة الصفة الأكثر تماهياً مع مدينة إدلب الحبلى بعشرات الفصائل المسلحة والتيارات السياسية، وكل فصيل يعمل بالوكالة عن أجندات دول إقليمية ودولية، واللعنة تاريخياً كانت تلحق بشعب ما نتيجة ممارسات وسلوكيات دولة ظالمة، فمن لعنة الفراعنة إلى لعنة البابليين انتقلت بماهيتها إلى سكان إدلب، التي استقبلت مرغمة كل من سقط أو استسلم لقوات النظام اعتباراً من أول صفقة في الزبداني 2014م إلى آخرها في درعا وريفها 2018م.

إدلب كآخر معقل للفصائل المتحاربة فيما بينها تارة ومع النظام تارة أخرى، ماذا يمكن أن تفعل تلك الفصائل أمام الطيران الروسي ومدفعية النظام وطيرانه؟ ثم ما موقف تركيا المتورطة في تجمعهم في هذه البقعة؟ كيف يمكن لها أن تقنع موسكو بالعدول عن ضربهم كونهما شريكين في مؤتمرات أستانة ويمثلان مع إيران الدول الضامنة؟ ثم ما هي نقاط الخلاف والتوافق بين موسكو وواشنطن بشأن هذا الهجوم؟.
كل الاحتمالات واردة، والكرة في ملعب كل الفرقاء، والكل يبحث عن أدوات وآليات تمكنه من الخروج من المولد بأكبر كمية من الحمص.

ما يجري في إدلب

منذ ثلاث سنوات وأكثر خرجت هذه المدينة من سيطرة النظام، لكن ما يجري فيها من استعدادات من قبل الفصائل لصد هجوم جيش النظام قد لا يتوقع أحد كيف ستكون نتائجها. أولاً الفصائل المسلحة تتقاتل وتتصارع فيما بينها، وهذا ما يريده النظام، ثانياً تركيا بدأت تتحرك وهي تائهة بخصوص اختيار أجندة تناسب الحالة رغم المصلحة المشتركة بينها وبين بعض الفصائل هناك، إلا أن هذه الفصائل تدرك تماماً أن ميول أنقرة نحو تبني الأفكار الروسية التي ترمي إلى إنهاء الإرهاب في إدلب والتأكيد على مصالح الدول الضامنة في أستانة. من هذا المنطلق تعي تلك الفصائل المسلحة أن أردوغان من المتوقع جداً أن يدخل في لعبة سياسية أخرى (مقايضة) مع الدول الضامنة، ومن أجل أن تحافظ أمريكا على مصالحها وتنهي المشهد الكردي! وهناك الكثير من الدلائل تشير إلى أن النظام سيسيطر عليها، وتحافظ تركيا بموجب المقايضة على بعض المناطق القريبة من حلب، بهذا الشكل قد تستسلم تلك الفصائل، لكنها لن تخرج من المشهد العسكري كما يتوقع البعض، بل سوف تحدد لها مهمتين، الأولى تجتمع تلك الفصائل في شرقي تركيا وتتدرب لقتال إيران العدو التاريخي لتركيا، أما الثانية فقد تجتمع في المناطق القريبة من الكرد في الشمال السوري وتحارب مشروعهم الوطني، بخاصة وقد لاح في الأفق بوادر الحوار السوري ـ السوري بين الشعوب في الشمال السوري والنظام، في هذه الأثناء قد يطلب من النظام القتال معاً ضد المرتزقة بدافعٍ وطني للتخلص من الفصائل الإرهابية.

أين أمريكا من الكل؟

هل تعيش أمريكا سلسلة إخفاقات في سوريا تضاف إلى فشل استراتيجياتها المتلاحقة في المنطقة، فمن هزائمها في أفغانستان والعراق يتوقع المراقبون فشل سياستها في سوريا أيضاً، ويقول الكاتب دوغ باندو الذي يعمل في مجلة «ناشونال إنترست»: «لا يخفى على أحد بأن لأمريكا مصالح في سوريا، لكن ليس بالحرب دائماً تربح المصالح»، من هنا تدرك كل الأطراف وهم على دراية تامة وكاملة بالنوايا والاحتمالات الواردة عسكرياً أيضاً، اللهم إلا إذا اتفقت الدول العظمى وأنهت الإشكالية بتسويات سياسية تُجنِّب المدينة وما فيها من القتل والدمار، لأن التباينات بين كل المتصارعين ما زالت على أشدها، وما طرأ مؤخراً بين واشنطن وطهران قد يكون بوابة للحيلولة دون وقوع حرب في إدلب.
فالسجال السياسي الأخير بين إيران وأمريكا ومن أبرز المسؤولين في البلدين يُؤكِّد على أنَّ وراء هذه التصريحات تسويات سياسية واقتصادية، فقد صرحت طهران وبكل قوة: إنَّها لن تخرج من سوريا بطلب من دولة أخرى؟ هذه لموسكو لكنهم يرسلونها لواشنطن، في حين يتبجح ترامب حين يسخر منهم قائلاً: (إيران واقتصادها يهويان بشكل سيئ). ولأن واشنطن تريد اللعب مع كل الأطراف، فقد طالبت أوروبا أن توضح موقفها وتحدد علاقتها مع أحد الطرفين، وتعمل بفرض عقوبات على إيران لأن أمريكا أعلنت بأن حزمة من العقوبات الأمريكية دخلت حيز التنفيذ على إيران.

هل تستغل أمريكا تركيا؟

المتابع للعلاقات بين البلدين يرى أنَّ شرخاً قد أصابها، لأنها باتت تعيش أسوأ حالاتها، ولهذا الشرخ أسباب منها أن تركيا وفي عهد أردوغان باتت تسير نحو الديكتاتورية (الانتخابات والإصلاحات الأخيرة)، وتحاول أن تقوي علاقاتها مع روسيا التي تهدد الناتو، من جهة أخرى تختلف مع أمريكا بخصوص تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا، لأنها أي تركيا تعتبر تلك القوات إرهابية بسبب وجود الكرد بينها، بينما تتحالف معهم أمريكا في جوانب عديدة.
هذا التباين همش العلاقات بين البلدين بعد أن توجهت أنقرة صوب روسيا وإيران، ليشكلوا الدول الضامنة بعقد مؤتمرات ولقاءات لإنهاء الأزمة في سوريا كما يحلو لهم وحسب أجنداتهم، فإيران تعمل بدبلوماسية مع كل الأطراف كي تحافظ على مكاسبها في المنطقة وتحديداً في سوريا، هذه المكاسب سوف تجعل من إيران المتحكم بسوريا كي يصبح طريق طهران، بغداد، دمشق، بيروت، سالكاً وبكل سهولة لنقل الأسلحة والبضائع والثقافة، وهذا ما يجعلها تسيطر على اليمن ومداخل البحرين وشط العرب والخليج، فالسياسات الإيرانية جعلت أمريكا تهتم بسوريا وبعض القوى السياسية والعسكرية فيها مثل الكرد وتتحالف معهم.
بذات المنحى يرى المراقبون أنَّ واشنطن سوف تبقى بكامل قوتها ولمدة أطول في سوريا وما بناءُ القواعد الأمريكية في مناطق مختلفة في الشمال السوري إلا تأكيداً على ما تقدَّم، وقد تدخل أمريكا بحروب مع إيران بهذا الخصوص ومع تركيا بسبب تفعيل دورها في الشمال السوري.

إدلب حصان طروادة

كان الحصان الخشبي خدعة وحيلة لحرب بين الإغريق وأهل طروادة، وأصبح ذاك الحصان سبباً لإنهاء حرب دامت عشر سنوات، وها هي إدلب تصبح ذريعة لحرب أو تسويات بين المتصارعين على سوريا، ولكي ندرك ماهية الخلافات لا بد من طرح بعض الأسئلة، هل ستنجح أمريكا بتركيع إيران من خلال حرب وشيكة أو عقوبات اقتصادية مع حلفائها وتخرجها من سوريا بخفي حنين وتلزمها باتفاقية نووية جديدة كما يريدها ترامب؟
في الداخل الإيراني المشهد بعكس ذلك رغم وجود أصوات عالية تتوقع مواجهة عسكرية بين القوتين، إلا أن المسؤولين الإيرانيين لا يبالون بقوة أمريكا، فحسين موسوي يستهزئ بأمريكا متحدياً: «لا أعتقد بأن ترامب لديه الشجاعة الكافية للهجوم على إيران»، لم يأتِ حديث موسوي جزافاً، بل اعتمد على معطيات منها أن أمريكا تعرضت لخسائر متتالية في الشرق الوسط، والخلافات بينها وبين حلفائها بات ظاهرة مزعجة لسياساتهم سواء مع أوروبا أو مع تركيا والكرد، بالإضافة أن القواعد والمصالح الأمريكية في المنطقة تحت رحمة الصواريخ الإيرانية التي تصل مداها إلى 2000كم.
هذه المعطيات لا يمكن أن تجر أمريكا لحرب مع إيران في سوريا أو خارجها، واكتفت الآن بعقوبات اقتصادية وهي القوة التي تسيطر عليها أمريكا أكثر من الحرب العسكرية، وهذا ما يُؤكِّد على أنَّ أمريكا لا تتعامل مع الأقوياء بالند والمثل، في هذه المعمعة السياسية بوتين فاجأ الكل حين قال: «يجب على كل القوات في سوريا الرحيل والخروج منها»، وهذا ربما يُجنِّب إدلب وأهلها ويلات الحرب، فهذه الأمور جعلت من إدلب بورصة عالمية في السياسة والمال، والكل يحاول أن يجد لنفسه موطئ قدم فيها كي يضمن بقاءَه في سوريا، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بعد استكمال المرحلة الأولى بنجاح وهي تجديد المفاوضات بين النظام والمعارضة والتوصل لشروط المصالحة، ومن ثم تبدأ المرحلة الثانية والأهم وهي تشكيل حكومة انتقالية تهيئ لإجراء انتخابات، ولا يتم ذلك إلا بعد توفر عاملي الأمن والاستقرار وبضمانات روسية وأمريكية.
لعنة إدلب تعكر صفوَ العلاقات بين الكل، وبخاصة بين الدول الضامنة لحمايتها، فطهران تشك في نوايا موسكو بعد تصريح بوتين بإخراج القوات الأجنبية وبخاصة بعد اقتراب نهاية الحرب في سوريا، هذه الشكوك أتت بعد أن علمت إيران أنَّ روسيا تعمل على عقد صفقات تحت طاولة أستانة مع إسرائيل وبعض الدول العربية المعادية والمختلفة معها، وهذا قد يجعل إيران تخسر نفوذها في سوريا، وموسكو تتعامل مع الدول الضامنة بسياسة تكتيكية براغماتية على مبدأ لا أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين؟

مشروع مسد الديمقراطي دفع بالنظام إلى طلب الحوار

هذا الخلط السياسي المعقد في سوريا يجعل الاحتمالات مفتوحة لأكثر من حل لإنهاء الحرب فيها، في حال تمت تسوية سياسية في إدلب بين المتخاصمين وجنبتها القتل والقتال، فهل يلعب مجلس سوريا الديمقراطية دور حصان طروادة للخروج من الأزمة؟ وتدور الدائرة عليهم وتتوصل كل الأطراف إلى ما يرضيهم، بخاصة وأن تركيا تحاول وتفعل كل شيء من أجل ألا تقوم قائمة لشعوب الشمال السوري وبخاصةٍ الكرد. لكن رياح أردوغان لا تشتهيها سفن أمريكا وروسيا.
إن اللقاء الأخير بين مجلس سوريا الديمقراطي والنظام السوري كان غير متوقَّعٍ لكل المتابعين، وهذا ما حدا ببعض الأطراف ليعيدوا قراءة الملف السوري مجدداً، بخاصة وأن روسيا تؤكد على الاعتراف الرسمي بالكرد من خلال دستور سوري جديد والعمل بمبدأ اللامركزية.
أمريكا من جانبها توطد العلاقات مع قوات سوريا الديمقراطية كونها القوة المدافعة ضد الإرهاب في الشمال السوري، وما المؤسسات والهيئات التابعة للإدارة الذاتية في الشمال السوري والتي تشارك فيها كل المكونات السورية إلا خطوة ناجحة في الحفاظ على وحدة المكونات والأرض السورية، هذه الإدارة تعمل وفق التعايش المشترك في ظل ثقافة أخوة الشعوب.