No Result
View All Result
المشاهدات 1
(عدت يا يوم مولدي… عدت يا أيها الشقي)، أتذكر تلك الأغنية كل عام عند موعد تاريخ ميلادي (27/1)، والذي يذكرني به أبنائي وأحفادي، ويسعدون بها، لكنها تجعلني أسترجع كل ما فات من عمري، وما فيه من إخفاقات ومتناقضات، الذي بدأ من القرية المصرية بكل بساطتها إلى ضجيج القاهرة، ومن القاهرة إلى بغداد ومن بغداد إلى أربيل، وبكل ما فيها من تعقيدات. في شبابي انجذبت إلى الأدب، قرأت وكتبت، لكنني اخترت طريقاً آخر، فالتحقت بكلية الزراعة وتشتت أفكاري بين الدراسة العملية وحب الأدب، وكنت أتعرض للتعثر في الدراسة، لأنني كنت ألهث خلف الندوات والصالونات الأدبية، بدءاً من صالون العقاد إلى ندوات دار الأدباء ونادي القصة ورابطة الأدب الحديث، والجلوس في مقهى (ريش) حيث يتواجد نجيب محفوظ، ومع ذلك حصلت على الشهادة الجامعية، وكان لدي فرصة لاستكمالها في نفس المجال (كما يفعل العقلاء).
لكني التحقت بالمعهد العالي للنقد الفني لأستكمل تناقضات حياتي، فمن دراسة مواد الزراعة إلى دراسة النقد الفني للموسيقى والفنون التشكيلية والسينما والمسرح وعلم الجمال، وهي مجالات لن تضيف شيئاً لوضعي الوظيفي في أربيل حيث عشت فيها تسع سنوات، عايشت فيها أغلبية سكانها (الكرد)، ومن خلال تعقيداتها القومية والطائفية والسياسية، اكتشفت أنني أنتمي إلى القومية العربية. إذ وجدتني في مجتمع فسيفسائي كردي، يختلط بهم أصحاب قوميات أخرى (عرب وتركمان وشبك وآشور وكلدان وغيرهم)، كل منهم له لغته وعاداته وتقاليده بل وغطاء رأسه وملابسه المميزة، وفي هذا الخضم وجدت أنني أنتمي لثقافة ولغة وموروثات تاريخية عليّ الحفاظ عليهم، فحرصت على لغتي العربية وربما باللهجة المصرية، وكان ذلك موضع انتقاد الأصدقاء في أنني لم أتعلم اللغة الكردية.
عشت كل الأحداث وما تعرض له الكرد من النظام الحاكم في بغداد ووهم الحكم الذاتي للمنطقة، عشت في أربيل والمسيرات الجماهيرية الإجبارية لمناسبات لا تنتهي، بعضها احتفالاً بانتصارات تتمثل في قصف الكرد بالغازات الكيماوية السامة، حيث كانوا يخرجون بالقوة ويهتفون ضد (الخونة)، ورأيت فيها تناقضاً كبيراً ضحكت منها بيني وبين نفسي، كرد بملابسهم المميزة وغطاء الرأس المميز يهتفون بشعارات حزب البعث (أمة عربية واحدة – ذات رسالة خالدة – وحدة حرية اشتراكية).عشت في أربيل بأفراحها النادرة من حزن وقهر كبيرين، عشت التطوع الإجباري في قادسية صدام، كانوا يطاردون الناس في الشوارع ويزجونهم في محرقة الحرب، عشت الإعدامات الجماعية العلنية في معسكر المدينة وفي الشوارع، كان النظام يروج في خطاباته أن العراق خيمة واحدة، وتأكيداً لذلك قرر إلغاء الألقاب التي تشير إلى العشيرة (التكريتي والعاني والبرزنجي والطائي… إلخ)، لكني رأيت أن العراق كان في حقيقته جزراً متباعدة، وكانت أربيل نموذجاً لذلك. كانت تصلني بعض الأخبار التي تؤكد شكلية هذا الحل الفوقي، فالنظام ينكل بعشائر معينة على أساس العرق أو الدين أو المذهب وأنكر على البعض عراقيتهم، فيما بعد وبشكل متأخر اكتشفت أن التقوقع داخل الشرنقة القومية والدينية والمذهبية جعلت الإنسان غير قادر على التكيف مع الآخرين، بل ربما يناصبهم العداء، وهذا ما اكتشفته في أواخر العمر وبعد معاناة فكرية مضنية، وسنوات طالت كثيراً بتناقضاتها وتعقيداتها، لتجعلني أستكمل بعض ما بدأت به من كلمات، الصبا ضاع من يدي وغزا الشيب مفرقي، ليت يا يوم مولدي كنت يوماً بلا غدِ).
No Result
View All Result