نار ترامب وجنة بايدن!

بشار جرار – واشنطن (كاتب)-

لا أخفي حبي واحترامي للثقافة البريطانية وسأكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى سمات غريبة عني “جينياً” كعربي كردي وهي البرود وأشياء أخرى ذات صلة في عالم السياسة.

يبدو أن برودة الطقس في بريطانيا وجو لندن الماطر الضبابي قد طبع الناس كافة ببرودتها وليس السياسيين وحدهم، عرفت ذلك عن قرب أيام الدراسة والعمل أواسط العقد الأخير من القرن الماضي، تميل الناس إلى الصمت والإتيان بأصوات توحي بقرب الحديث أو المداخلة بعيداً عن عقلية المجادلة والمناقرة! تهمهم كما يقال قبل النطق ببنت شفة، فيأتي الجواب رداً على سؤال على النحو الآتي: أخشى ألا يكون الأمر بتلك السهولة أو أخشى ألا يكون الأمر مستحيلا للغاية. تحار لم يتفادى الإنجليز القطع بالإجابة عندما تكون الأمور بديهية؟ ويأتيك الجواب بأن ما من شيء قطعي الثبوت وأن الحياة ليست “أبيض وأسود” وأن المنطقة الرمادية واسعة متعددة الدرجات في اقترابها من النقيضين.

في المقابل، جاء العالم الجديد ممثلاً بأمريكا قبل أربعة قرون ليطور تلك المفاهيم ويؤصلها في الدستور والعرف وهو الأقوى والأبقى، وما من شيء يعيب المشتغلين بالسياسة أكثر ممن يوصفون بذوي الرؤوس الحامية وأول ما يفضحهم ذاك الرابض بين الحنكين ومقتل الناس ومحياها في لسانهم، حيث تبقى الكلمة مستورة في الصدور والعقول والضمائر حتى يطلق اللسان لها العنان.

قد يكون كثيراً مما نحن فيه في أمريكا الآن مربوط في عقدة لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وكذلك الرئيس المنتخب المفترض جو بايدن، وكلاهما متشابهان أكثر مما يظن المتطرفون في انقسامهم الحزبي بين جمهوريين وديموقراطيين،

لحصر الحديث، سأقصر المقالة على ما يخص سوريا الدولة بكل مكوناتها بما في ذلك النموذج الذي تشكله منطقة الإدارة الذاتية شمال شرق سوريا، الأمة السوريانية، مع احترامي ومحبتي لمن يصرون لاعتبارات سياسية عابرة على اقتصار سوريا على العروبة والإسلام.

سيأتي يوم سيقول فيه السوريون عموماً والكرد وما يقال أنهم أقليات خصوصاً: نار ترامب ولا جنة بايدن! في السياسة، أكثر السياسيين خطورة هم المحكومون، القادة الحقيقيون الذي يحكمون ويقودون هم الأقدر على إحداث التغيير وصنع السلام والاختراقات والصفقات. من الذاكرة السورية، نعلم أن “وديعة رابين” كانت ثمرة ثقة رئيس وزراء إسرائيل الراحل إسحق رابين بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، من حيث قدرته على حسم الأمور داخلياً وإقناع أو “إجبار” إن اقتضى الأمر الداخل السوري والخارج العربي (بمن فيهم من تبقوا من “جبهة الصمود والتصدي”: سوريا والعراق وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية). رابين في المقابل لم يثق يوماً بالراحل ياسر عرفات رئيس المنظمة وأول رؤساء دولة فلسطين القائمة على مشروع “غزة – أريحا أولاً” وما ترتب على اتفاقات أوسلو التي توالت فيها لاءات فتح والفصائل والمنظمة والسلطة الفلسطينية على نحو “دراماتيكي سوريالي” من مطلع الستينيات وحتى زمان صار فيه التنسيق الأمني ركناً أساسيا من أركان السيادة والاستقلال! ولا فارق بين سلطة رام الله وسلطة غزة في ذلك، بعيداً عن أسطوانة المقاومة والممانعة والتهدئة وخلافه!

ترامب في السلطة وخارجها سيكون حاضراً وبقوة في ترتيبات الشرق الأوسط برمته لا بل والعلاقة مع ساحات دولية أخرى، من بينها أوروبا وروسيا وفي مقدمتها الصين وعبر المحيط الهادئ، والذي قد لا يكون هادئاً على الإطلاق في العقد الثالث من القرن الحالي.

بايدن مع واجب الاحترام لن يكون رئيساً سوى لولاية واحدة كما أعلن مسبقاً بنفسه، فيما لو تولى الرئاسة هناك من يشك بقدرته صحياً على قضاء أربع سنوات زمنياً أو فعلياً. نائبته كمالا هاريس لا تملك خبرة سياسية خارجية على الإطلاق سوى تعهدها كغيرها أمام “إيباك” أحد اللوبيهات أو جماعات الضغط الأكثر نفوذاً في أمريكا بالعمل على حماية إسرائيل ومصالحها وتفوقها الاستراتيجي.

مستقبل سوريا ومجلس سوريا الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية، سيكون من الناحية العملية مربوط بالعلاقة مع إسرائيل ومن ثم إيران وروسيا، أي مقولة غير ذلك ستكون مجافية للحقيقة، لا بايدن ولا كمالا هاريس سيحدد سياسة التعامل مع هذه الملفات بقدر ما ستكون الدولة العميقة والمؤسسة (الحزب الديموقراطي)، جميع تلك الأطراف لا تختلف كثيراً بل وإطلاقاً عما عمل من أجله ترامب.

أرجو أن تكون الصورة واضحة في ذهن أصحاب القرار وصنّاعه على امتداد الوطن السوري الحبيب، الأيام المتبقية في ولاية ترامب في غاية الخطورة بصرف النظر عن ساكن البيت الأبيض بعد العشرين من كانون الثاني، قد تضرب إيران أو أحد أذرعها أو رموزها، تلك مسألة تبقى في إطار رد الفعل، أما الفعل فقد يكون بسيطاً ذا دلالة كإطلاق سراح الرهائن أو المساجين أو المفقودين في سوريا، ونحن بانتظار الغد الآتي لتؤكد ما طرحناه.