No Result
View All Result
المشاهدات 2
تقرير/ آزاد كردي –
تتميز مدينة منبج بأنها معين من الشعر لا ينضب، ودوحة ورفاء لشعرائها الذين فنوا فيها، فذوِّبوا بفتنتها محبيها وذابوا، وصدحوا بحبها فما سكنوا ومنهم الشاعر؛ علي الجاسم.
في شعره نسافر معه في دروب العشق، حيث كان قد درج على ترابها وقضى فيها بحبوحة الصغر يطوف في أزقتها لتعيش في مخيلته ذِكَر التاريخ وإشراقة الحاضر، لا سيما وأن له قمقمه وعالمه الخاص، دخله ليرتشف السحر من لمى الفرات ويلثم محراب الجمال دون أن يخرج، وهو الذي قال عن نفسه أنه لما يكتب القصيدة يشعر أنه كان ميتاً وقد عاد للحياة، أنه الشاعر؛ علي الجاسم.
ذائقة شعرية بين الرسوخ والإيحائية
ما أن تقرأ له قصائده حتى تحلق وتسبح معه في فضاءاته البعيدة، لكنه في ذات الوقت يحاول أن يكون قريباً من قارئه، ولتعلق به صفات الشعراء العصر الحديث الكبار من وقوفهم على منابر الشعر الرسمية حتى لينسى في إلقاءه كل شيء، ليستغرق في تجلياته الشعرية من معين لا ينضب ليمتع الحضور من حوله بخلاف أولئك الشعراء الذين لا يجيدون الارتجال الشعري. يأخذك صوته في رعشة شعرية تجوب داخلك أشبه بتجليات الصوفية تغور في أعماق النفس ولا ترقد، فهو من الشعراء الذين لا يؤمن بالبيت الشعري الموهون والضعيف لا بل أن بناء القصيدة الشكلي والبنيوي كأنه صيغ من سلسال واحد ليترك لك أن تتعمد بموضئ الجمال والعاطفة. هذه العناصر الجمالية تتوافر بكثرة في نصوصه حيث طوع هذين العنصرين في رسم لغته الشعرية، بما فيها البعد الوطني الذي يتميز بالقوة والمتانة، إذ يقول في قصيدة” لـلـشّـامِ تــهـدرُ يـــا قـلـبي وتـنـتفضُ”.
“عـــدواً تـطـير إلـيـها شـفّـكَ الـمـرضُ
لـلـشّـامِ تــهـدرُ يـــا قـلـبي وتـنـتفضُ
كــأنّـكَ الــريـحُ نـهـبـاً رحْـــتَ تـلـقفُهُ
إفــكَ الأفـاعي الـتي لـلحلم تـعترضُ
تــفـجّـرَ الــشّــوقُ بـركـانـاً بـقـافـيتي
فـكـلّـما هـزّهـا فــي الـركـن تـنـتهضُ
أُذيــبُ هـذا الأسـى فـي يُـتمِ تـربتِها
لـعـلَّـه مــن رمــادي يـهـطل الـرَّمـضُ”
من يسكن الآخر الشاعر أم لغة القصيدة؟
الشاعر علي الجاسم متفرد عن غيره من الشعراء، ومتمرد أيضاً؛ لأنه يحلق خارج السرب وخارج أبعاد القصيدة فهو يجهل متى يطير ومتى يحط لأن فضاء الكتابة شبيه بفضاء الطيران الواسع ليس له أوان. فهو ابن ساعته التي يتجلى فيها بصيص الجمال والسحر تحرضانه على الكتابة عنوة، وربما قد لا تصل إلى درجة الإشباع، وإنما يقاد للكتابة دون وعي لتولد القصيدة بمحطة ما أو في إحدى محطاته الشعرية المختلفة، فمخاض قصيدته قد يستغرق جلسة واحدة أو عدة أشهر. فمثلاً قصيدته” على قارعة التيه”، حيث يتيه في رقعة شطرنج شاعريته دون أن يهتدي إلى درب ما لإنهاء معاناته، لا بل ينتقل من بوتقة المحدود إلى اللامحدود ومن عنصر المكان إلى اللا مكان، حيث لا تتسع منبج وفضاءاتها الشعرية في رسم كلماته المموسقة، فيقول:”
“حطَّتْ علـــى كبدي نوارسُ أحـــــــــــــرفي
ثكلـى , فجـــــــــــزتُ بربعهـــــــــــــــــا فلواتي
ألقيتُ ألـــــــــــــواحي لأنِّيَ شــــــــــــــــــــــــــاعـرٌ
يغفو المســـــــــــــــــــــــــــاءُ على يدَيْ صبواتي
ولأنني بحــــــــــــــــــــــــــــــــرٌ بغير شـــــــــــواطــئٍ
أدمنتُ دفءَ الشمس في الموجـــــــــــــــــاتِ
ولأنني كـــــــــــــــــــــــــــــــــــلُّ الّــــــــــــــــــذين أحبُّهم
أعطيتُ هــــــــــــــــــــــــــــــــذا الكونَ بعضَ سمـاتي”
وكغيره من الشعراء؛ ينظر الشاعر علي الجاسم إلى قصائده؛ كالأب الذي يرعى أولاده وبنفس السواسية ودون تفريق لأحد منهم لأنهن أقرب إليه من روحه وبحظوتهن سواء. بل يضطر أن يكون أباً قاسياً في بعض الأحيان أو ربما يتقمص الملكة الشعرية لأحد شعراء الحوليات في العصر الجاهلي الذين عرف عنهم شدتهم العناية بالشعر. إحساسه الفياض لا ضفاف له، وقلما تجد له من التكلف موضعاً الذي يعرف عند البعض مرجحاً العاطفة لأن ما يخرج من القلب سيقع فيه بلا مقدمات والأدب يخاطب شريحة كبيرة من الناس ليسوا على سوية واحدة من الثقافة أو المعرفة ولا يدغدغ مشاعرهم ويثير وجدانهم سوى كلمات دافئة لذلك لا يميل إلى التكلف أو التصنع أو وضع نفسه في قوالب وعفويته من قلبه بمثابة المحرك لشاعريته الدافقة، ولا غرابة في ذلك، إن كان شرب من الفرات العذب، فيقول مثلاً في قصيدة” غداً ستندم”.
“غـداً ستندمُ .. مـــا غاليتُ إن وقفـا
يومـاً ببـابـــــــــــيَ هــــذا القلبُ واعترفـا
وتطلبُ الصَّفحَ عمَّا كــــــــان مرتبكـــــاً
يا جـرحَ أمسٍ علـــــــــــــــــى حمَّـــــــــــائـِهِ نزفـا”
فضاء الشعر بين الثراء الثقافي والدور الترويجي
يتتبع إحساسه دون أن يهاب دخول عالم الحداثة بخلاف ممن ضاعوا في متاهة فنياتها الأدبية والنقدية بل هو متمكن من أشكال القصيدة وأنماطها سواء أكانت عمودية أم تفعيلة، فالمهم أن يدخلك فراديس من الجمال والألق لا يزيدها الإلقاء سوى روعة ودهشة؛ باعتباره صاحب رسالة أدبية وإنسانية يحملها المرسل إلى المتلقي ويجب أن تغلف هذه الرسالة، بغلاف جميل سواء على الطريقة القديمة أو الحديثة بل يرى أن القصيدة تكتب للشعب، للمثقف والأمي، وطبعاً هذا لا يعني تقديم القصيدة الخطابية على الأمور الفنية في القصيدة وإنما من خلال مزاوجتهما مع بعضهما البعض، لكنه أشد الحانقين على قصيدة النثر ولا يرتضيها أبداً كلون أدبي دخيل على الفنون الشعرية الحديثة. قصائده حبلى بالتجديد بالأساليب الفنية للغة الشعرية لكنه عموماً لا يخرج عن الأطر الشعرية التقليدية المتوارثة كونه قارئ نهم للجديد الأدبي أيضاً، ولا يمانع من جعل غرض الرثاء أو الأطلال على قدمهما وقداستهما عند الشعراء من خلقهما بصورة فنية لا تشبه غيرها. فمثلاً قصيدة” ولادة على أطلال الأربعين”، تعيد القارئ عنوة إلى دفتي الكتب القديمة لقراءة شعراء المعلقات أو الفحول والتلذذ بنهجهم وأساليبهم الفنية لكن بكل تأكيد الأغراض تلك بحداثة جديدة.
“وخيَّمَ الليلُ البهيمُ على المكانْ
وتدفّقتْ من وجنةِ الظُّلماتِ أسئلةٌ
بحجمِ الجرحِ فضَّ إزارَها
بردُ الشِّتاءْ
كنَّا ثلاثةَ تائهينَ يشدُّنا
موجٌ ويدفعُنا بقسوةِ ماردٍ
نحوَ العراءْ”
المرأة حين تُجمِّل كل ما حولها
ينظر للمرأة على أنها موضوع خاص بها مستقل منفصل دون أن تكون المرأة كل شيء بحياته وشعره بخلاف غيره الذين ينظرون إليها على أنها الملهمة للشعر والطبيعة، وهي تتقاطع بذلك مع غيرها من الأغراض والفنون الشعرية، وهو بذلك شأنه شأن شاعره المفضل” المتنبي” الذي تغزل بالمرأة دون أن تكون المرأة لديهما كل شيء. لكن ذلك لم يمنعه أن يقول الشعر تبعاً لإحساسه الفني والطبيعي، وله في ذلك العديد من القصائد، منها قصيدة” لأني أحبك”.
“لأني أحبُّكِ
تمرّين بي نورساً يغزل
المسافاتِ خلف تخوم المرايا
ويعجن لليل بستانَ حلمٍ”
يشار إلى أن الشاعر علي الجاسم من مواليد مدينة منبج عام 1972م تخرج من جامعة حلب، كلية الآداب قسم اللغة العربية سنة 1998م. ونال المركز الثاني في مسابقة اتحاد الكتاب العرب فرع حلب سنة 1993م والجائزة الثانية في مسابقة نقابة المعلمين سنة 1994م، صدر له العديد من الدواوين منها؛ ديوان بعنوان: شناشيل الضياء، ومسافر نحو الفجر، وتغريبة آخر الشعراء.
No Result
View All Result