الرابع عشر من تموز… العين تهزم المخرز

عبد الرحمن محمد –

لقرون وقرون غرست الشوفينيّة بذور اليأس والاستسلام في داخل الكرد، وحاولت فرض الخضوع والاستسلام كسماتٍ للشعب الكرديّ، فراح يكتفي بمجرد التضرُّع إلى الله، والتوسُّل بالصالحين كملاذٍ وأملٍ للكثيرين منهم بالخلاص، وأن الاستسلام والخضوع إنّما هو مشيئة الله وإرادته، وربما يغدو تغيير الأمر أو مجرد التفكير به ضرباً من الشرك أو الكفر ومخالفة الإرادة الإلهيّة.
كان نيوتن محقاً يوم اكتشف أن للجاذبيّة مساراً واحداً باتجاه مركز الأرض، وصرخ أرخميدس في الأسواق عارياً «وجدتها»، وكذلك هي قضايا الشعوب لا تقبل التأويل والتحريف، تتكرر مع أشخاص آخرين وأمم أخرى وفي أمكنة وأزمنة مختلفة، وقد حدثت بالفعل يوم أدرك الشاب الكرديّ المناضل «عبدالله أوجلان» حقيقة ثابتة كتلك الحقيقة التي كانت السبب في سقوط تفاحة نيوتن، وهي مقولته التي انطلق منها هو وحركة التحرُّر الكردستانيّ من بعده «كردستان مستعمرة» يومها كانت الصحوة الجديدة والحقيقة المرة التي أضحت نقطة التحول في القضية الكرديّة.
كانت تلك الحقيقة التي تجسّدت في مقولة صادقة وحقيقة ناصعة نقطة البداية والتحول الكبير الذي طال الأذهان والفكر قبل الأبدان، ومعها انطلقت أولى خيوط الأمل وانبعثت بوادر يومٍ مشرق جميل، حيث ثارت طلائع حركة التحرر على نفسها أولاً؛ ورفضت الاستسلام ثانياً، وفكَّرت بالحل للواقع والتمرُّد عليه ثالثاً، رغم أن ثقافة الاستسلام لمشيئة المستبد والرضى بالواقع شبه تامة، وهكذا كانت دائرة معرفة الذات ورفض الواقع والبحث عن حل تتسع، واتسعت معها دائرة المؤمنين بالمقولة الحقيقية التي حلَّلت الواقع بكلِّ مراراته في كلمة لها دلالات عظيمة «مستعمرة».
حين بدأت الثورة في الأذهان واتضحت الفكرة، كانت الأذهان المتفتحة والفكر الخلاق والثقافة المبدعة ترسم طريقها نحو الخلاص، وهي تؤكد كلّ يوم وبكلّ خطوة على أنَّ التغيير والتقدُّم والثورة إنما تنطلق من الذات من الفكر والذهنية والإيمان، وآمن الرعيل الأول من حركة التحرُّر الكردستانية بقدراتهم وإمكاناتهم وقضيَّتهم ولهذا كان مجرد إعلان تأسيس حزب في ذلك الوقت يُعدُّ ثورة، وكان قد سبقها وتلاها الكثير من الملاحقة والتعذيب والاعتقال ليتم وأد المسألة في مهدها كما حلم بذلك منكروها.
كان الشهداء العظماء «كمال بير وعاكف يلماز ومحمد خيري درموش وعلي جيجك» من طليعة الشباب الثوريّ الذين آمنوا بالقضية، وتعرّفوا على حقيقة تاريخهم وماضيهم المر وواقعهم الأمر، وأن المستقبل سيكون أمَرَّ من الاثنين، لذا كانوا كرُسُلٍ ومبشرين وثوريين ومعلمين لمن حولهم، وكانوا ممن عملوا على إيصال الحقيقة لمن حولهم وأيقظوا الغفاة من رقادهم ليثوروا في وجه الإنكار والإبادة والتصفيات، وعندما توهَّمت الشوفينية التركيّة أنَّها قادرةٌ على إخماد جذوة ثورتهم أجّجت نار غضبتهم؛ فاحترقت هي.
كان لأولئك العظماء الدور البارز والأكيد في بعث الإرادة من جديد، والمقاومة التي اتخذوها هدفاً وشعاراً لهم موقنين بأن «المقاومة حياة»، كانت إرادة حوَّلت سجن «آمد» إلى قلعة للمقاومة والتضحية ومدرسة للأخلاق الثورية والنضال في سبيل المبادئ الأسمى، لقد أضرب أولئك الشبان عن الطعام، ولم تفلح كل أساليب الفاشيين القتلة في ثنيهم عن الإضراب، ولم يستسلموا ولم يتنازلوا عن مطالبهم، بل كانوا يحاكمون جلاديهم ويحرجونهم في كلِّ مرة، ويثبتون لرفاقهم ومحبيهم أنَّ الإيمان بالقضية هو أصدق إيمان، وأنَّ المقاومة سبيل الخلاص وأنَّ الشمس لا تُحجب بغربال الظلم والقهر، وهكذا وصلت رسالتَهم إلى رفاق دربهم من المعتقلين والأحرار على حدٍّ سواء، فازدادوا إيماناً ويقيناً، وتبدَّلت المفاهيم الاستسلاميّة إلى حقائق واقعيّة، وتبدلت ثقافة الاستسلام والخنوع إلى ثقافة المقاومة والتغيير، ومفهوم الدونية إلى سمو وافتخار، وكانت الثورة تشتعل في كلِّ يوم وتتقد كلما حاول المستبدون إخمادها، وبعد مقاومة شهرين من بدء الإضراب عن الطعام كان الرفاق الأربعة قد ارتقوا سلالم المجد والخلود نحو السماء وكانت رسالتهم قد طافت أرجاء كردستان والعالم، لتقول: إن الكرد أصحاب حضارة وثقافة لا تموت، ومن ثم كانت قفزة الخامس عشر من آب بعدها بعامين التي انتقمت للشهداء والمعتقلين في سجون النظام التركي وقالت بالحرف «إنْ شئتم السلم فنحن مسالمون وإن شئتم الحرب فنحن المنتقمون».
هكذا كان الرابع عشر من أيار، مقاومةً صنعت تاريخاً، ورسالةً كتبت أسطرَ تاريخٍ عريقٍ بالنضال، وثقافةَ رفضٍ للاستسلام، وتمرُّدٍ على الضيم، وردَّاً على حقيقة أنَّ كردستان مستعمرة المُرَّة؛ لتكون كردستان حرة.