الشاعر: إيليا أبو ماضي القصيدة: المساء

إعداد: عبد الرحمن محمد –

إيليا أبو ماضي شاعر عربي لبناني يعتبر من أبرز شعراء المهجر في أوائل القرن العشرين. ولد في جبل لبنان في أيار 1890م. نشأ في عائلة بسيطة الحال لذلك لم يستطع أن يدرس في قريته سوى المرحلة الابتدائية البسيطة؛ فدخل مدرسة المحيدثة القائمة في جوار الكنيسة.
انتقل إلى مصر ليعمل مع عمه في تجارة التبغ ويظهر نبوغه الشعري والأدبي، وكان ميالاً للشعر السياسي، وكتب عدة قصائد كانت كفيلة بملاحقته سياسياً مما اضطره للهرب واللجوء الى أمريكا ليؤسس مع عدد من أدباء المهجر أمثال ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران «الرابطة القلمية».
ضم أول ديوان له قصائده الأولى وعرف بـ «تذكار الماضي» عام 1911م. كما أصدر مجلة السمير عام 1919م، وحولها الى صحيفة عام 1936م.
كم أعماله: ديوان تذكار الماضي، ديوان تبر وتراب، ديوان الجداول، ديوان الخمائل. الأعمال الكاملة لإيليا أبي ماضي. توفي في بروكلين بالولايات المتحدة الأمريكية في 23تشرين الثاني 1957م.
وهذه القصيدة من روائع شاعرنا والتي تدخلنا إلى عالم من التأمّل والتفاعل مع أسرار الطبيعة من خلال مشهد المساء الذي تراه الحبيبة مصدر تشاؤم بينما يجعله الشاعر لوحة رائعة تحثُّ الرائي على الاستمتاع برسائل الطبيعة ويدعونا إلى التفاؤل في أصعب الحالات التي نواجهها، ويذكرنا بعبقريةٍ بأنَّ لكلِّ شيءٍ من خلال نظرتنا وجهين؛ وجهاً جميلاً قد نغفلُ عنه لأنَّنا ركّزنا على الجانب السلبي فقط، ووجهاً آخر هو الظاهر لنا، مستخدماً مشهد المساء لرسم هذه الفكرة حقاً إنه شاعر يستحق أن يخلده التاريخ.
قصيدة:

المســـاء

السحبُ تركضُ في الفضاء الرّحب ركض الخائفين
و الشمس تبدو خلفها صفراء عاصبة الجبين
و البحر ساج صامت فيه خشوع الزاهدين
لكنّما عيناك باهتتان في الأفق البعيد
سلمى … بماذا تفكّرين ؟
سلمى … بماذا تحلمين ؟
*
أرأيت أحلام الطفولة تختفي خلف التّخوم ؟
أم أبصرت عيناك أشباح الكهولة في الغيوم ؟
أم خفت أن يأتي الدّجى الجاني و لا تأتي النجوم ؟
أنا لا أرى ما تلمحين من المشاهد إنّما
ظلالها في ناظريك
تنمّ، يا سلمى، عليك
إنّي أراك كسائحٍ في القفر ضلَّ عن الطّريق
يرجو صديقاً في الفـلاة، وأين في القفر الصديق
يهوى البروق وضوءَها، ويخاف تخدعه البروق
بل أنت أعظم حيرة من فارس تحت القتام
لا يستطيع الانتصار
ولا يطيق الانكسار
*

هذي الهواجس لم تكن مرسومه في مقلتيك
فلقد رأيتك في الضّحى و رأيته في وجنتيك
لكن وجدتك في المساء وضعت رأسك في يديك
و جلست في عينيك ألغاز، و في النّفس اكتئاب
مثل اكتئاب العاشقين
سلمى … بماذا تفكّرين ؟
*
بالأرض كيف هوت عروش النّور عن هضباتها ؟
أم بالمروج الخضر ساد الصّمت في جنباتها ؟
أم بالعصافير التي تعدو إلى و كناتها ؟
أم بالمسا ؟ إنّ المسا يخفي المدائن كالقرى
و الكوخ كالقصر المكين
و الشّوك مثل الياسمين
*
لا فرق عند اللّيل بين النهر و المستنقع
يخفي ابتسامات الطروب كأدمع المتوجّع
إنّ الجمال يغيب مثل القبح تحت البّرقع
لكن لماذا تجزعين على النهار و للدّجى
أحلامه و رغائبه
و سماؤه و كواكبه ؟
*

إن كان قد ستر البلاد سهولها ووعورها
لم يسلب الزهر الأريج و لا المياه خريرها
كلّا ، و لا منع النّسائم في الفضاء مسيرها
ما زال في الورق الحفيف و في الصّبا أنفاسها
و العندليب صداحه
لا ظفره و جناحه
*

فاصغي إلى صوت الجداول جاريات في السّفوح
واستنشقي الأزهار في الجنّات ما دامت تفوح
و تمتّعي بالشّهب في الأفلاك ما دامت تلوح
من قبل أن يأتي زمان كالضّباب أو الدّخان
لا تبصرين به الغدير
و لا يلذّ لك الخرير
*
لتكن حياتك كلّها أملا جميلاً طيّبا
و لتملأ الأحلام نفسك في الكهولة والصّبا
مثل الكواكب في السماء و كالأزاهر في الرّبى
ليكن بأمر الحبّ قلبك عالماً في ذاته
أزهاره لا تذبل
و نجومه لا تأفل
*

مات النهار ابن الصباح فلا تقولي كيف مات
إنّ التأمّل في الحياة يزيد أوجاع الحياة
فدعي الكآبة و الأسى و استرجعي مرح الفتاة
قد كان وجهك في الضّحى مثل الضّحى متهلّلا
فيه البشاشة والبهاء
ليكن كذلك في المساء.