تناولنا في الجزء الأول سوريا بعد الاستقلال ومن ثم ظهور حزب البعث، واستيلاؤه على السلطة والحكم، وحدوث الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، ونستكمل في هذا الجزء سلسلة الأحداث لأنظمة الحكم في سوريا.
بعد انقلاب 1963 دخل الحزب في أزمة داخلية وصراعات وصدامات بين الناصريين والبعثيين وتصفيات داخل الحزب بين التيار القديم المؤسس للحزب والتيار الجديد أعضاء اللجنة العسكرية، وتمكن جناح صلاح جديد وحافظ الأسد من وضع قبضتهم العسكرية على الحكم، لينتهي الأمر بخروج عفلق والبيطار خارج سوريا واستقرار عفلق في العراق حتى وفاته عام 1989 وتم اغتيال البيطار في باريس عام 1980وانقسم الحزب إلى حزبين الأول يقود الحكم في سوريا والآخر يقود الحكم في العراق.
ولم ينتهِ الأمر هنا إذ حصلت مواجهة بين صلاح جديد الذي رغب في تولي منصب بارز في حزب البعث وحافظ الأسد الذي تولى قيادة وزارة الدفاع، ليقوم الأخير بانقلاب عسكري في العام 1970 ضد خصمه صلاح جديد مستغلا غيابه عن دمشق، وقد أودعه السجن حافظ الأسد حتى وفاته عام 1993. سمي هذا الانقلاب بالحركة التصحيحية في السادس عشر من تشرين الثاني على يد حافظ الأسد عضو القيادة القطرية في حزب البعث ورئيس الأركان السوري مصطفى طلاس، وعُين أحمد حسن الخطيب رئيسا مؤقتا للبلاد.
ورسميا تولى الأسد منصب رئاسة الجمهورية العربية السورية عام 1971 لتدخل سوريا حقبة من الظلام الدامس ويقف المجتمع السوري وجها لوجه أمام طغيان الدولة القومية المركزية، تحت نير واستبداد سلطة البعث وقائده الأسد الأب.
كانت أولى خطوات توطيد حكمه في سوريا هي عدم السماح بظاهرة الانقلابات العسكرية، التي شهدتها سوريا منذ العام 1949، وعمل على إنهاء الصراعات الداخلية في الحزب، وجعل الجيش حكرا على حزب البعث وسمح لبعض الأحزاب السياسية اليسارية والقومية بالعودة إلى الساحة السياسية دون المساس بهيمنة البعث على البلاد وفي العام 1973 نص الدستور على أن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع.
انتهج الأسد الأب نهجا ميكافيليا في قيادته للحكم في سوريا، وأصبحت السلطة مركزية تدار من حزب واحد ورجل واحد، عمل على التغلغل في مفاصل الحياة المجتمعية والتغلغل فيها كالأخطبوط بهدف السيطرة الشاملة والتحكم بمصير الأفراد والمجتمع وحتى الطبيعة. فالغاية تبرر الوسيلة كما قالها ميكافيلي وللوصول إلى الغاية فالوسيلة لها شرعيتها.
أولا: تمت مراقبة أجهزة الدولة ومؤسساتها عن كثب وبدقة لا متناهية وعدد المفارز الأمنية -بكل مسمياتها المنتشرة- في طول البلاد وعرضها هي الدليل الحي على إرهاب النظام من أجل الهيمنة على المجتمع والأفراد، فحتى دبيب النملة على الأرض يجب أن تعلم بها هذه الأجهزة، القبضة الأمنية والعسكرية كانت صاحبة القول الفصل في الدولة.
ثانيا: عمد النظام إلى فرض أيديولوجية البعث، مستخدما الوسائل من أجل هندسة المجتمع السوري وتنميطه وخلق مواطنين من نمط واحد، فمؤسسات التربية والتعليم من أصغرها إلى أكبرها تحمل مسؤولية تلقين المواطن السوري أهداف البعث وشعاره وأديباته وتعظيم قائده فهو حامي العروبة والعرب والمدافع المغوار عن الفلسطينيين وقضيتهم، والتحية الصباحية التي كان يردد فيها شعار الحزب وأهدافه وعهده خير دليل على مساعي الحزب لفرض أيديولوجيته على ذهنية الإنسان السوري (مواطنون سوريون يغردون مع السرب ويفرض عليهم الانضمام الى صفوف الحزب وهكذا يتشكل جيش من الحزبيين البعثيين في الدولة الفاشية). إلى جانب التعليم تم تسخير مؤسسات الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لنشر أيديولوجية البعث وسياسة الإعلام السوري انحصرت في تمجيد وتعظيم حزب البعث وقائده، فيكفي أن يصدر مرسوم رئاسي واحد فقط لتنفخ وسائل الإعلام أبواقها للتطبيل والتزمير لهذا المرسوم وكأنه الآية المنزلة من الإله. ثالثا: لا حياة سياسية خارج مظلة الحزب: بالتوازي مع هذا التعظيم والتفخيم والتبجيل لسيادة الرئيس، فتحت المفارز الأمنية والعسكرية أبوابها على مصراعيها لاستقبال معتقلي الرأي والنشطاء السياسيين، لقد عمد حزب البعث إلى قمع الحركات والأحزاب السياسية المعارضة والمناهضة لسياساته، وبقيت التعددية السياسية في سوريا محصورة فقط في أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية المنطوية تحت مظلة البعث والتي لاحول لها ولا قوة. وأحداث حماة شاهد حي على فظاعة الإجرام الذي مارسته الدولة ضد حركة الأخوان المسلمين، وحظر عليها مزاولة نشاطها إلى جانب حظر عمل الكثير من الأحزاب السياسية كحزب العمل الشيوعي، والحزب السوري القومي الاجتماعي وكل الحركات والأحزاب السياسية الكردية التي تشكلت منذ خمسينات القرن العشرين وتمت ملاحقة أعضاء هذه الأحزاب واكتظت السجون بمعتقلي الرأي وتم التنكيل بهم وقتلهم وحتى نفيهم خارج البلاد. فرع فلسطين، وسجن صيدنايا، وفرع المخابرات الجوية، أسماء ستبقى محفورة في ذاكرة الألم لدى السوريين. (الأحزاب التي تم ذكرها هي على سبيل المثال لا الحصر).
رابعا: لا شيء يعطي الأمير احتراما وتقديرا كما تعطيه المشاريع العظيمة، فقام بإنشاء السدود ووضع أحجار الأساس لمشاريع أخرى، وبناء الجامعات في حلب واللاذقية وحمص وعمل على التأميم والإصلاح الزراعي وعلى الرغم من إصدار قانون الاستثمار رقم 10 للعام 1991 لكن بقي الاقتصاد بقطاعاته الحيوية الطاقة والاتصالات تحت سيطرة الدولة وبدقة بقيت حكرا على آل الأسد والمقربين منه، ومعلوم لدى السوريين إن عائدات النفط لم تكن تدخل في الموازنة العامة بحجة أنها تصرف على الجيش السوري حامي حمى الوطن وأرضه، على الرغم من الموارد والثروات الغنية الموجودة في سوريا بقي المواطن السوري يعيش تحت خط الفقر وهذه وسيلة أخرى من وسائل الدولة القومية لاضطهاد الشعب وجعله يفكر فقط في لقمة عيشه وقوت يومه.
خامسا: البعث والعروبة والعرب: سوريا في حالة حرب مع إسرائيل وهذا يعني استمرار العمل بقانون الطوارئ الذي تم فرضه بعد انقلاب الثامن من آذار 1963 هذا القانون الذي جعل حزب البعث وقيادته يضعان الخناق على حياة المواطن السوري. استطاعت الدولة العزف على وتر العروبة بشكل كبير وتضخيم هذا المفهوم في الشارع العربي، واستغلت القضية الفلسطينية للتأثير على ذهنية المواطن السوري والتلاعب به، فمنذ حرب تشرين عام 1973 وحتى لحظة سقوط النظام لم تطلق طلقة واحدة باتجاه العدو. وهنا لابد أن نذكر حقيقة مفادها أن الدولة لم يكن يعنيها الشأن الفلسطيني بل على العكس من ذلك فإنشاء مفرزة أمنية باسم فرع فلسطين كان كافيا لإظهار مدى تبني الدولة لقضية عرب فلسطين.
سادسا: البعث والنسيج السوري: لم تنظر الدولة السورية إلى التنوع الإثني والطائفي والمذهبي والقومي في سوريا على أنه غنى حضاري وثقافي لها على العكس من ذلك إحدى أهم مهام هذه الدولة القومية هي تفكيك النسيج المجتمعي وتغييب الذاكرة الجمعية المجتمعية لدى السوريين، فالأرمن والسريان والآشوريون أصولهم عربية والكرد هم أبناء عمومة العرب وعلى الجميع الانصهار في بوتقة العروبة.
كما عملت على تطبيق سياسة فرق تسد بين كافة هذه المكونات فكلما كان المجتمع مجزئا وضعيفا ومبعثرا تسهل السيطرة عليه؛ لذلك عمل على بث روح الصراع الطائفي والقومي وضرب الشعوب فيما بينها فالسنة يريدون إسقاط نظام الدولة البعثية العلوية، والعلويون أعداء السنة ويريدون اجتثاثهم من جذورهم، والأكراد يعانون من ضعف الانتماء القومي، ومهم مرتبطون بدول خارجية ويسعون إلى اقتطاع جزء من الأراضي السورية والعرب هم مواطنون من الدرجة الأولى وكل حقوقهم الثقافية مصانة في دولته، بينما لا يحق للكردي والأرمني والسرياني والآشوري بالتعلم بلغته الأم والتعبير عن مظاهر حضاراتهم الثقافية، فالمواطن السوري الجيد هو المواطن الذي انصهر في بوتقة العروبة الفجة. بالمحصلة فنظام الدولة القومية المركزية هو نظام شمولي مركزي عنوانه الظلم والطغيان والاستبداد وتميزت حقبة الأسد الأب بقمع الحريات الفردية والجماعية وانعدام الحياة السياسية وإنكار التعددية السياسية حيث القول الفصل للقبضة الأمنية العسكرية والبوط العسكري، واقتصاد متردٍ وغياب جميع مظاهر الحرية والديمقراطية والأمن والأمان. ليورث سوريا الى ابنه بشار الذي أعده للرئاسة بعد وفاته في العام 2000 في جلسة لمجلس الشعب تم فيها تعديل المادة الدستورية التي تنص على ألا يقل عمر الرئيس عن أربعين عاما. في خمس دقائق أصبح بشار الأسد الأمين العام القطري لحزب البعث، وأصبح بدوره القائد العام للدولة والمجتمع ورئيس البلاد.
لم يكن نهج الأسد الابن مغايرا لنهج الأسد الأب فبعد فترة قصيرة من الانفتاح النسبي عادت الجهات الأمنية لقمع المعارضين في البلاد، في ظل التغيرات التي حصلت في الشرق الأوسط مع انهيار نظام الحكم في العراق واغتيال رفيق الحريري في لبنان، وتوجيه أصابع الاتهام الى النظام السوري في مقتل الحريري.
وبالرغم من تعديل المادة الدستورية التي تنص أن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع، فإن الشعب السوري سيقف وجها لوجه أمام نظام أشد عنفا وطغيانا وأكثر بطشا من نظام الأسد الأب، مع وصول نسائم الربيع العربي إلى سوريا، بكسر أصابع أطفال درعا الذين كتبوا على جدران المدارس بدنا حرية، وانطلاق الثورة الثورية في منتصف آذار من العام 2011، كانت حصيلتها تدمير البنية التحتية للبلاد وتشريد الملايين من السوريين وتهجريهم قسرا، وفقدان الآلاف، وزج مئات الآلاف في سجون الأسد كسجن صيدنايا الشاهد الأكبر على وحشية ودكتاتورية النظام البعثي. ولا يزال الآلاف من السوريين في عداد المفقودين. وقائمة المجازر التي ارتكبت بحق السوريين خلال عهد الثورة لا تقل عن عدد المجازر التي ارتكبت بحق السوريين في عهد الأسد الأب. كمجزرة الكيماوي بغوطة دمشق 21 آب 2013 ومجزرة خان شيخون نيسان 2017.
مطلقا لم يمد هذا النظام الشمولي يده إلى يد السوريين الذين طالبو بالتغيير والتحول الديمقراطي في البلاد واحترام حقوق الإنسان وصون الحريات الفردية على الرغم من محاولاته لامتصاص الغضب السوري في بدايات الثورة من خلال بعض الإصلاحات والترقيعات، إلا أن إصرار النظام السوري على الحل العسكري وإطلاق ترسانته العسكرية لقمع المتظاهرين السلميين أدى الى عسكرة الثورة السورية وفتح الباب أمام التدخلات الدولية والإقليمية في المنطقة وبالتالي تعميق الأزمة السورية وتحويلها إلى العقدة، وإراقة المزيد من الدم السوري واحتلال تركيا الأراضي السورية، وزيادة تشرذم السوريين وتبعثرهم.
بقي بشار الأسد في سدة الحكم طيلة أعوام الثورة بدعم روسي إيراني ملحوظ. لينهار حكمه بهروبه من البلاد في صبيحة الثامن من كانون الأول عام 2024 على يد هيئة تحرير الشام معلنا نهاية حكم البعث وعائلة الأسد التي حكمت سوريا كنظام شمولي وراثي طائفي. مخلفا وراءه إرثا ثقيلا للسوريين يكاد يهد كاهلهم. ويجعلهم في حالة تخوف وتخبط كبيرين في ظل المتغيرات السياسية المتسارعة في المنطقة، وإنهاء اتفاقية سيايكس – بيكو والعمل على إعادة رسم الخرائط في المنطقة، لا سيما أن هيئة تحرير الشام بخلفيتها الراديكالية “الإسلام السياسي” لا تحمل حلم سوريا ديمقراطية، فحتى هذه اللحظة لم تطرح خارطة طريق للحل في سوريا ولا تملك رؤية واضحة حول شكل سوريا المستقبل وشكل الحكم فيه. ولاتزال طريقة وصولها إلى الحكم في سوريا خلال فترة قصيرة تثير التساؤلات والشكوك حول القوة الاستخباراتية التي تقف خلفه وتدعمه.
إن مرحلة الانعطافات التاريخية الكبرى تحمل بين طياتها احتمالين لا ثالث لهما. فهي المرحلة الأكثر دموية إذا ما تم السير على المنوال نفسه الذي سارت عليه الدولة القومية بأدواتها وأساليبها وتوجهاتها، وسيكون تقسيم سوريا هي النتيجة النهائية إذا ما تم الإصرار على بناء الدولة القومية المركزية، ذات اللون الواحد والعلم الواحد والدين الواحد والقومية الواحدة.
ومن جهة أخرى هي المرحلة الأكثر إنتاجية. لذلك فإن السوريين أمام استحقاق تاريخي من أجل تحقيق مطالب المجتمع السوري متعدد العقيدة والهويات الثقافية والطائفية والقومية وبالتالي فإن تقوية الجبهة الداخلية في سوريا هي وظيفة أساسية وإحدى المهام الجوهرية التي تقع على عاتق كافة الأحزاب والأطر السياسية والشخصيات السياسية والثقافية والدينية التي تؤمن بالديمقراطية والتعددية والحرية والسلام. وهم مطالبون بزيادة وتيرة نضالهم من أجل إقامة نظام جديد في سويا الجديدة قائم على حرية المجتمع السوري ومساواته وإدارته الديمقراطية التعددية وتحقيق مبدأ الوحدة في التنوع وإعادة إحياء الأصالة التاريخية للمجتمع السوري استنادا إلى القيم المجتمعية الأخلاقية التي تربط كافة مكونات الشعب السوري على مدار التاريخ السوري والتفافهم حول سوريا واحتضانهم لها.
سوريا موحدة أرضا وشعبا، سوريا لكل السوريين بهوية وطنية جامعة.
مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية