روناهي/ الرقة – في قلب مدينة الرقة، حيث تمتزج الحضارات القديمة بتاريخ غني يمتد لقرون، يقف سور الرقة شامخا، شاهدا على العصور التي مرت بهذه المنطقة. يعد هذا السور واحدا من أبرز المعالم الأثرية في شمال وشرق سوريا، إذ كان عبر التاريخ خط الدفاع الأول عن المدينة، يحمل بين أحجاره حكايات لا تزال محفورة في وجدان أهلها.
بني سور الرقة في العصر العباسي ليكون حصنا يحمي المدينة من الغزوات، وشكل جزءا رئيسيا من البنية الدفاعية للمنطقة. أمر الخليفة العباسي المنصور ببناء مدينة الرافقة عام 772 ميلادي (155 هجري)، وكلف ابنه المهدي بالإشراف على بنائها، ثم أضاف الخليفة هارون الرشيد توسعات أخرى للسور خلال فترة حكمه. كان السور محصنا بطبقات دفاعية متعددة، منها خندق بعرض 15.9 متر، وجدار خارجي، وجدار داخلي سميك مدعم بـ 132 برجا مستديرا موزعة بانتظام على كامل محيطه، تفصل بينها مسافة تتراوح بين 25 و28 مترا. كما كان للسور ثلاثة مداخل رئيسية: البوابة الغربية الصغيرة، البوابة الشمالية الضخمة، وبوابة بغداد، التي كانت تستخدم للاحتفالات الرسمية وليس كوسيلة دفاعية.
ولكن خلال السنوات الماضية، تعرض السور للدمار نتيجة الحروب والنزاعات التي مرت بها المدينة، وخصوصا خلال فترة سيطرة مرتزقة داعش، حيث تم إلحاق ضرر كبير بأجزائه الأساسية، إضافة إلى انهيار بعض البدنات والمداخل الرئيسية. هذا الخراب دفع الجهات المعنية إلى إطلاق مشاريع لترميمه وإعادته إلى حالته الأصلية، ليكون رمزا لصمود المدينة.
واليوم، تطلق هيئة الثقافة والآثار المرحلة الرابعة من مشروع ترميم سور الرقة، وهي خطوة أخرى نحو استعادة هذا الإرث الحضاري وإحيائه بالشكل الذي يليق بمكانته التاريخية.
إعادة الحياة إلى سور الرقة بعد سنوات من الدمار
حول انطلاق المرحلة الرابعة من الترميم، تحدث مرهف الفهد، الرئيس المشترك لهيئة الثقافة والآثار في شمال وشرق سوريا، في تصريح خاص لصحيفتنا “روناهي” عن أهمية هذا المشروع في إعادة إحياء واحداً من أهم معالم المدينة: “يهدف هذا المشروع إلى إعادة ترميم البدنة “رقم 6″ ومداخل السور الرئيسية، حيث تشمل هذه المرحلة مدخل بوابة شارع المنصور، ومدخل جامع المنصور، ومدخل شارع 23 شباط، ومدخل الصناعة. إن استعادة هذه النقاط الرئيسية سيعيد جزءا كبيرا من الطابع الأصلي للسور، ويمنح المدينة هويتها التاريخية.”
وأضاف: “استُخدم في المشروع 110 أمتار مكعبة من الآجر، و330 متراً مكعباً من اللبن الطيني، وهي مواد مستوحاة من البناء الأصلي للسور لضمان الحفاظ على طابعه المعماري القديم”.
وتطرق مرهف إلى حالة السور قبل الترميم، مشيرا إلى الخراب الذي حل به خلال سيطرة داعش على المدينة: “لقد تعرض سور الرقة إلى دمار كبير، حيث تم قصف أجزاء منه وتدمير مداخل رئيسية كانت تشكل نقاط عبور تاريخية. استعادة هذه الأجزاء ليست مجرد عملية ترميم، بل هي إعادة إحياء لذاكرة المدينة”.
وفيما يخص مراحل الترميم، أوضح الفهد، أن المرحلة الرابعة انطلقت رسميا بتاريخ 15حزيران 2025، حيث سيتم العمل بدقة للحفاظ على تفاصيل السور ومعماره الفريد. وأكد أن المشروع سيستمر لمدة 120 يوما، مع متابعة دقيقة لضمان تنفيذ الترميم بأفضل شكل ممكن.
ثلاث مراحل سبقت هذه المرحلة
لم يكن هذا المشروع وليد اللحظة، بل هو استمرار لجهود طويلة بدأت منذ سنوات، حيث سبقت المرحلة الرابعة ثلاث مراحل رئيسية من الترميم:
1.المرحلة الأولى: انطلقت في تموز 2018، وركزت على تقييم الأضرار التي لحقت بالسور وتنظيف المناطق المهدمة. استغرقت هذه المرحلة حوالي ستة أشهر، وشملت دراسات أثرية لتحديد أولويات الترميم.
2.المرحلة الثانية: بدأت في نيسان 2019، وتضمنت ترميم أجزاء متفرقة من السور، خصوصا في المناطق الأكثر تضررا نتيجة القصف. استمرت هذه المرحلة لمدة خمسة أشهر، وشهدت استخدام تقنيات حديثة للحفاظ على بنية السور الأصلية.
3.المرحلة الثالثة: انطلقت في تشرين أول 2022، وتم فيها ترميم أجزاء من المداخل والجدران الداخلية، واستغرقت حوالي أربعة أشهر، حيث تم التركيز على استعادة شكل السور التاريخي مع تعزيز استقراره البنيوي.
واليوم، ومع دخول الترميم مرحلته الرابعة، تقترب الرقة خطوة أخرى من استعادة أحد أهم معالمها، لتظل هذه الجهود شاهدة على إرادة سكانها في الحفاظ على إرثهم الحضاري رغم كل التحديات.