روناهي/ الرقة – في مدينة لم تخفت صرخات ماضيها، وفي قلب الرقة التي حملت أوجاعاً لا تحصى، يقف “متحف ذاكرة لا تنسى” كوثيقة لا تقبل النسيان، يروي حكاية شعب قاوم الإرهاب وخرج من تحت أنقاض الموت ليحمل للعالم رسالة العدالة.
وهنا، داخل حديقة هيئة الثقافة، أقيم أول متحف توثيقي شامل لجرائم مرتزقة داعش بين عامي 2014 و2017، يوثق المأساة التي فرضها داعش على المدنيين العزل، ويعيد تصوير مشاهد القهر والدم التي عاشها سكان المدينة عندما تحولت إلى مركز رئيسي لداعش.
وعبر صور نادرة، ومنحوتات تشهد على الفظائع، وأدوات إعدام استخدمت لإرهاب الأبرياء، يجمع المتحف أدلة دامغة تؤكد أن ما حدث ليس مجرد ماض ينسى، بل تاريخ محفور في الذاكرة الجماعية، يحذر الأجيال القادمة من إعادة إنتاج الإرهاب، ويضع العالم أمام مسؤولية تحقيق العدالة الانتقالية لكل سوريا، من الرقة إلى الساحل، ومن الأحياء التي دفنت تحت الظلام إلى المدن التي تنتظر الخلاص.
بين الصورة والمنحوتة.. متحف يفضح الإرهاب
ليست مجرد مجموعة من الوثائق أو الصور، بل شهادة حية تجسد فصول المأساة التي طالت سكان الرقة، حيث يعرض المتحف 100 صورة منتقاة من آلاف الوثائق التي تم الحصول عليها بصعوبة بالغة.
هذه الصور تكشف جوانب غير معروفة عن تجنيد الأطفال القسري، حيث استخدمهم التنظيم كأدوات قتل، دربهم على تنفيذ الإعدامات الميدانية بدم بارد، ليصبحوا جنوداً صغاراً يحترفون فن القتل قبل أن يدركوا معنى الحياة.
وكما توضح الوثائق كيف تعرضت المرأة لأبشع أشكال القمع، فمنعت من التعليم والعمل، وأُجبرت على ارتداء الحجاب تحت تهديد السلاح، بينما تحولت الأسواق إلى ساحات لتجارة النساء، حيث كانت السبايا الإيزيديات تباع وفق تسعيرات محددة كما تباع السلع، مشهد لم يتحمله كثير من الزوار الذين زاروا المتحف، فخرجوا مذهولين من حجم الفاجعة التي عاشتها الرقة. فكيف الحال بمن شاهد وعاش تلك الحقائق المهولة!؟
منحوتات الجريمة.. الفن في خدمة الحقيقة
إلى جانب الصور، جسّد فنانون تشكيليون الرعب الذي عاشه السكان من خلال منحوتات تحاكي الواقع المظلم الذي فرضه داعش على المدينة. مجسم لـ “دوار الجحيم”، الذي شهد إعدامات جماعية وعلّقت فيه رؤوس الأبرياء، وثلاثة رؤوس جبسية ترمز للضحايا، بالإضافة إلى تمثال لامرأة مقيدة بالسلاسل يجسد القهر الذي تعرضت له النساء، وآخر لرأس مبتور يعبّر عن المصير الذي واجهته كثير من النساء خلال سيطرة داعش. وكما تحمل منحوتة “المفقودين” عشرات الرؤوس المجهولة، في إشارة إلى آلاف الضحايا الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اليوم، فيما تعرض أدوات الإعدام الأصلية التي استخدمها داعش بجانب قراراته التي فرضت الصلاة الإجبارية وأغلقت المحال التجارية وأعدمت المعارضين، وحولت المدارس إلى دواوين شرعية، في محاولة لإلغاء الهوية الفكرية وفرض أيديولوجيا الموت.
ما بين الماضي والحاضر.. عدالة لم تتحقق بعد
المتحف لا يحصر نفسه في استعادة الماضي فقط، بل يفتح نافذة على الواقع الجديد للرقة، حيث يعرض مقارنة بين زمن داعش، إذ حطم حقوق المرأة وهدم التراث، وبين اليوم الذي يشهد نهوض النساء في مؤسسات الإدارة الذاتية السيادية والخدمية منها والمجتمع المدني، وترميم المؤسسات الثقافية، واستعادة الحياة الطبيعية.
وترى سرفراز شريف، الرئيسة المشتركة لهيئة الثقافة والآثار في إقليم شمال وشرق سوريا، في تصريح خاص لـ صحيفتنا “روناهي”: “إن الهدف من المتحف لا يقتصر على توثيق الألم، بل يشمل توثيق صمود أهالي الرقة وتضحيات قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية المرأة التي حررت المنطقة من إرهاب داعش عام 2017”.
وتؤكد: “إن العدالة الانتقالية ليست مجرد مطلب، بل ضرورة لإنصاف الضحايا، ومحاسبة كل من تورط في جرائم ضد السوريين، سواء من داعش أو من الاحتلال التركي، الذي يواصل جرائمه في الشمال السوري دون رادع دولي”.
الصدمة العالمية أمام تجارة النساء
واستقبل المتحف وفوداً محلية ودولية، وسيّاحاً من أمريكا وسنغافورة والصين، الذين وقفوا أمام الوثائق التي تكشف تجارة النساء في أسواق داعش، كيف كانت تباع بأثمان مختلفة، وكيف تحولت المرأة إلى سلعة يتداولها تجار الرعب.
تلك المشاهد خلفت صدمة عميقة في نفوس الزوار، الذين عجز بعضهم عن إكمال الجولة، وغادر بعضهم المتحف بعيونٍ ممتلئة بالأسى، بعدما أدركوا أن ما يرونه ليس مجرد مشهد سينمائي، بل تاريخ حقيقي عاشه آلاف الأبرياء دون أن يحاسب أحد على هذه الجرائم.
متحف الرقة.. بوابة الحقيقة التي لا تُغلق
ما يقدمه المتحف ليس مجرد استعادة لذكريات دامية، بل رسالة واضحة للعالم: العدالة لا تأتي بمجرد التذكّر، بل تتطلب المساءلة، والإنصاف، واستعادة حقوق الذين دفعوا ثمن الإرهاب. إنه ليس مجرد شاهد على الماضي، بل منصة تطالب بالتحرك، تضع العالم أمام مسؤوليته الأخلاقية والتاريخية، وتؤكد أن إعادة الحقوق ليست رفاهية، بل مسؤولية جماعية تضمن ألا يتكرر هذا المشهد في مكانٍ آخر وزمن جديد.