عبد الرحمن ربوع
عديدة هي الصور المُلتبسة في الذهنية السوريّة هذه الأيام، وكثيرة هي تلك الحروف التي باتت مشوهة بلا نقاط وبلا ملامح وبلا أصوات. في وقتٍ تَهْدُر فيه التفاهة والسطحية، وتَزْأَر العنصرية، ويعربِد التطرف والتخلف، والسبب أننا إزاء مخاض جديد، مخاض إعادة بناء الدولة على أسس مغايرة لأسس الدولة التي سقطت في الثامن من كانون الأول 2024.
تسود في العرف التعبيري مقولة “وضع النقاط على الحروف” وهذا روتين متبع منذ أربعة عشر قرنًا، حين قام نصر الليثي ويحيى العدواني مشكورَين بتنقيط الحروف العربية المعجمة لتمييز المتشابه منها ليستطيع المتعلمون القراءة بسلاسة ويُسر، دون بذل الكثير من الجهد في تمييز الكلمات. وادخار وسعهم في فهم المعنى، وإدراك المغزى بدلًا من إضاعة الوقت في فكِّ الخطوط وحل الطلاسم.
وفي واقعنا اليوم، فيما تسود حالة من الهشاشة والقتامة على كل الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية يبرز مع الوقت نظام سياسي لا يعرف من النظام إلا الاستبداد ولا من السياسة إلى التسلط.
بطبيعة الحال لا يمكن حصر كل القضايا التي تشغل بال السوريين اليوم في مقالة أو عشرة أو عشرين؛ ففي كل يوم نحن إزاء قضية جديدة تحتاج حلا أو حكمًا فيما ينبري الرأي العام للإدلاء بدلوه فتظهر الآراء كبحرٍ هائج لُجّيٍّ تعصف به التيارات الفكرية المتنوعة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وفوقها ظلمات بعضها فوق بعض نتيجة المشاعر السلبية التي طفت على سطح الشخصية السوريّة وأظهرت الكثير من القبح والتناقض والأحادية. خصوصًا لدى العامة أو لدى المتثاقفين الباحثين عن الشهرة فوق ظهر الرأي العام عبر التضليل، ويركبون موجة الردح متسببين بكوارثٍ خطيرة تهدد أمن وسلام واستقرار البلد ومستقبلها.
وما أحوجنا اليوم لتوضيح الكثير من المفاهيم والقيم حيث نتفاجأ اليومَ أن شريحة عريضة من الشعب بما فيها السلطة نفسها لا تدرك منها شيئًا أو تدركها بطريقة مقلوبة بفعل التضليل والتشويه الذي يقوم به إعلام مزيِّف مزوِّر يريد السيطرة ويطمح للتحكم بالبلد وشعبها عبر غرس قيم مشوّهة وتشويه القيم السائدة ليكون هو ومَن وراءَه المؤثر والمتحكم بقرار البلد ومقدّراتها.
ومع إن المرحلة الحالية مرحلة بناء وتأسيس ولا تسمح بالتحليل الشامل ولا بالتقييم النهائي؛ لكن هناك مسؤولية كبيرة وتاريخية تقع على عاتق المثقفين المُقْصَيْن، والسياسيين المُبعدين لتصويب المسار، وقرع نواقيس الخطر والتنبيه والتحذير ورفع الصوت عاليًا عند كل خطر. بل والتحريض على كل مُخطئ قد تهوي البلد بجريرته إلى مهاوي أزمات سياسية واجتماعية أخطر بكثير مما عايشناه خلال سنوات الثورة، وقد ينتج عنه موجة جديدة من اللجوء والنزوح والتهجير، فضلًا عن إعراض وإحجام المهاجرين واللاجئين عن العودة لعدم توافر أسبابها، وعلى رأسها الأمن والعدل والاستقرار واحترام القانون.
إن عملية خروجنا أو إخراجنا من الحالة الراهنة بما فيها من ضبابية ولا يقين وصعوبات وتحديات تقع على عاتق من يفترض أنهم الأقدر على تمييز الخيارات، واقتراح الحلول. كما فعل الليثي والعدواني قبل أربعة عشر قرنًا حين ابتكرا طريقة سلسة لقراءة المكتوبات بلا أخطاء أو تصحيف. واليوم وفي كل يوم نحتاج لمن ينبّهنا للأخطاء، ويجنّبنا الخطايا، ويضع لنا النقط فوق وتحت الحروف لنُحسن قراءة الواقع، ونُحسن المسير بين منعرجاته وفِخاخه وصولًا لبرّ سلام واستقرار. ومع أن الثمن غالي سيدفعه هؤلاء على يد الغوغاء والدهماء؛ إلا أنّ النتائج والثمر في النهاية تستحق كلَّ ألمٍ احتُمِل وكل عناءٍ بُذل.