د. خالد جبر (باحث في القانون الدولي)
تمتزج في منطقتَي عفرين (2018) وسري كانيه (2019) عناصر معاناة إنسانية شديدة، تمثل التهجير القسري أحد أبرز تجلياتها، فقد طُرِد عشرات الآلاف من سكانها من منازلهم، وتعرضوا للنهب، والتغيير الديموغرافي القسري، وسط صمتٍ دولي وضغطٍ قانوني ضعيف، تعد هذه العمليات انتهاكًا صارخًا لأحكام القانون الدولي الإنساني، وحقوق الإنسان، والإطار التحقيقي والقضائي الدولي، بما يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية.
لكن التهجير هنا لم يكن مجرد أثر جانبي للحرب. إنه جريمة منظمة بتصميم سياسي، تُشكل محورًا أساسيًا في إعادة تشكيل المصير السوري، ما يفرض الرد القانوني والأخلاقي بما يتجاوز مجرد الإدانة.
الإطار القانوني: التهجير القسري كجريمةٍ دولية وخطوة أولى نحو المساءلة.
منظومة نظام روما الأساسي
ـ التهجير القسري يُصنَّف كجريمة ضد الإنسانية وفق المادة 7(1) (د)، وجريمة حرب في النزاعات الداخلية بموجب المادة 8 (2) (هـ) (8).
ـ تشير قاعدة “العدالة الإجرائية”، وإن التهجير خارج القانون هو أمر لا يطاق، وسبق أن وُصِف بأنه “سياسة ممنهجة” لتحويل التركيبة السكانية.
اتفاقية جنيف الرابعة – المادة 49
ـ تحظر بشكلٍ قاطع النقل أو الترحيل الجماعي للأشخاص المحميين، سواء كان ذلك لأغراض أمنية أو ديموغرافية، دون مبرر قانوني.
القانون الدولي الإنساني العرفي
ـ قواعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر (129–133) تجرّم النقل قسريًّا، وتُلزم الجهات المرتكبة بضمان العودة والتعويضات.
المبادئ التوجيهية للتهجير الداخلي
ـ تشترط العودة الطوعية، والتعويض عن الخسائر، وضمان حق الضحية في البقاء أو العودة، بما يوفر الحماية ضد تحول التهجير إلى كارثةٍ ديموغرافية مستمرة.
عفرين وسري كانيه: نماذج تُحاكي سياسة الاحتلال والتغيير الديموغرافي
في الهجوم التركي على عفرين واحتلالها بعد 58 يوم من المقاومة البطولية وفي إطار ما أسمته تركيا “غصن الزيتون” (2018): هجر ما يقرب من 300,000 مدني كردي قسريًا، وتم الاستيلاء ممنهج على المنازل والممتلكات، ونشر سياسة تغيير ديموغرافي عبر توطين عائلات من مناطق أخرى.
ـ منظمات مثل STJ توثّق استغلال الأراضي والموارد المحلية، بهدف الحسم الديموغرافي.
في سري كانيه ومن خلال الهجوم الذي قامت به تركيا وأفضى لاحتلال سري كانيه بعد ما أسمته تركيا بـ “نبع السلام” (2019):
ـ ارتكبت عمليات قمع، اختطاف، ونهب؛ وتغيير هوية المدينة بتسمية جديدة وتعيين مجالس موالية.
ـ استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا (مثل الفوسفور الأبيض) لتخويف المدنيين وترحيلهم.
دمج الجريمة ضمن العدالة الانتقالية: خارطة طريق مستقبلية
- كشف الحقيقة:
ـ يجب إنشاء هيئة وطنية مستقلة توثق عمليات التهجير بالتفصيل، بالتعاون مع الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان.
ـ أهمية إشراك اللاجئين والمهجرين في هذه العملية وفق أدوات العدالة الانتقالية.
- المساءلة القانونية:
ـ بناء محاكمات خاصة بجرائم التهجير قد تشمل اختصاصًا دوليًا عبر المحكمة الجنائية أو المحاكم الأوروبية باستخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية.
ـ الاستفادة من آليات مثل IIIM وملفات الأسلحة الفوسفورية ضمن مجلس حقوق الإنسان.
- جبر الضرر وإعادة الحقوق:
ـ استعادة المساكن، إعادة الحقوق المقدسية، وتعويضات شاملة تشمل الأضرار المادية والنفسية.
ـ ضمان العودة الطوعية والطويلة الأمد، دون قيود سياسية أو عقبات قانونية.
- الإصلاح المؤسسي وإعادة البناء:
ـ منع تسلّط المتورطين في التهجير على مناطقهم السابقة.
ـ دمج المجالس المحلية المنتخبة وضمان تمثيل المجتمعات المتضررة.
- حفظ الذاكرة ومنع الإفلات:
ـ إنشاء متاحف وسجلات وطنية للتوثيق، تُحدّق في الحالة السورية كجزءٍ من السلام الدائم، مثل منتدى “الذاكرة الوطنية” المستوحى من تجربة التشيلية أو التونسية.
سُبل إحداث فارق فعلي في سوريا الجديدة
معالجة النصر ليست مجرد انتهاء القتال، بل تبدأ من الاعتراف الرسمي بجرائم التهجير، وتفعيل المساءلة القانونية، وجبر الضرر.
ليس فقط إعادة بناء المنازل، بل إعادة بناء الثقة في حق الدولة بحماية مواطنيها.
فقط من خلال العدالة الانتقالية – بما تضمّه من محاسبة، وثائق، حقوق، إصلاح – نستطيع ضمان سوريا لا تنسلخ عن تنوعها، ولا تتحوّل إلى مسرح لصراعات قديمة تعيد تمثيل جرائم الماضي.