الشدادي/ حسام الدخيل ـ منذ إعلان سقوط النظام السوري في الثامن من كانون الثاني 2024، تحولت وسائل التواصل الافتراضي إلى ساحة مفتوحة لأشكال التعبير، لكنها لم تسر جميعها في اتجاه الحريات الإيجابية، ففي الوقت الذي حاول فيه السوريون التقاط أنفاسهم وبناء مرحلة جديدة، بدأت شبكات رقمية منظمة تضخ محتوى طائفياً وتحريضياً، بدا كأنه محاولة مبيتة لنسف أي أمل في الاستقرار.
ما بين فيسبوك وتلغرام ومنصة “إكس”، تكشف هذه المنصات وجهاً مظلماُ لأزمات لم تُحل بعد، تغذيها حسابات مشبوهة، وأجندات داخلية وخارجية، تتسابق جميعها لإشعال فتيل النزاع مجدداً.
انفجار رقمي بلا حسيب.. من يملأ فراغ السلطة؟
عقب انهيار مؤسسات الدولة المركزية، وغياب الرقابة الرسمية على الإعلام الرقمي، وجدت تيارات متصارعة في سوريا فرصة ملء هذا الفراغ، ظهرت عشرات الصفحات والحسابات التي تتحدث باسم طوائف ومكونات دينية وإثنية، لكنها في الحقيقة لم تكن سوى أدوات لزرع الشك والكراهية.
فصفحة “المرصد العلوي الحر”، على سبيل المثال، نشرت منذ مطلع عام 2024 أكثر من 400 منشور تحريضي ضد شعوب سورية أخرى، مدعية الدفاع عن حقوق الشعب العلوي، بينما كانت تروّج فعلياً لأفكار الانفصال. في المقابل، برزت قنوات مثل “أنصار الشام الحرة” على تيليغرام، تخلط بين الدين والسياسة، وتعيد إنتاج خطاب الحرب تحت غطاء الثورة.
الحسابات المجهولة.. أذرع أجندات مشبوهة
واللافت أن معظم هذه الصفحات لا تُدار من داخل سوريا، تحليل بيانات من خبراء في الإعلام الرقمي أظهر أن نسبة كبيرة من الحسابات المحرضة مرتبطة بعناوين إنترنت تعود إلى دول أوروبية وآسيوية، وبعضها مرتبط ببنى تكنولوجية داخل إيران وإسرائيل.
والهدف ليس فقط إثارة الكراهية، بل التشكيك في وحدة السوريين، ودفعهم نحو العنف الطائفي كخيار وحيد.
الإعلام في حالة غيبوبة.. من يرد على الكذب؟
ومع انهيار النظام، اختفى الإعلام الرسمي الذي كان لعقود مصدرًا وحيدًا للمعلومة (رغم انحيازه)، الآن، لم تنجح أي جهة بديلة في تقديم إعلام موثوق قادر على الحد من سطوة الشائعات، والنتيجة؟ سيطرت منشورات مجهولة المصدر على عقول الملايين، مقاطع فيديو قديمة تعود لأحداث مختلفة يُعاد تدويرها كل يوم على أنها “جرائم ضد الطائفة الفلانية”، صور مفبركة، تسريبات صوتية ملفقة، معظمها تم صنعها بأدوات الذكاء الاصطناعي، كلها تُتداول دون أي تحقق، ومع كل إعادة نشر، يتزايد منسوب الاحتقان.
بين الكرد والدروز والعلويين والسنة.. لعبة تقسيم وطن
ومن بين أخطر الأشكال التي اتخذها خطاب الكراهية، ما يستهدف العلاقات بين الشعوب السورية الرئيسية.
صفحات تتهم الكرد والدروز بـ”الانفصالية” وتروّج لأساطير خيالية عن خيانة مفترضة، ومنشورات تصور العلويين على أنهم أعداء الثورة، وتحمّلهم بشكل جماعي مسؤولية جرائم النظام.
وتحريض مبطن ضد السنة بوصفهم حاضنة للتطرف، في تكرار خطير لروايات ما قبل 2011.
وبهذه الطريقة، تحوّل الفضاء الرقمي إلى أداة لتفتيت النسيج الاجتماعي، واستُخدمت منصات التواصل منابر لمحاكمات شعبية وانفعالات لا تستند إلى أي عدالة أو منطق.
تيليغرام.. المجهول الأخطر
تيليغرام، المنصة التي يصعب مراقبتها، باتت الملاذ الآمن لأشد الحملات التحريضية تطرفًا. قنوات مغلقة تنشر مواد عنيفة، تحلل دماء الخصوم، وتُدرّب على خطاب الإلغاء.
في إحدى القنوات ـ التي يتجاوز عدد مشتركيها 15 ألفاً، نُشرت في آذار الماضي قائمة أسماء طائفية لأشخاص يُزعم أنهم “خونة” أو “عملاء”، مع عناوينهم وصورهم، في تحريض مباشر على العنف.
من وراء الستار؟
ولا يمكن فهم هذا التمدد العنيف لخطاب الكراهية دون فهم القوى التي تغذيه، منها جهات خارجية، تسعى لفرض هيمنتها للاستيلاء على خيرات المنطقة، وتيارات متشددة محلية، وجدت في غياب القانون فرصة لتصفية حسابات قديمة.
ما العمل؟
فالوقوف في وجه خطاب الكراهية ليس خياراً بل ضرورة وجودية، وهذا يتطلب حزمة حلول من عدة مستويات:
1ـ تشريعات قانونية صارمة:
• إصدار قانون خاص بتجريم التحريض الطائفي والعرقي عبر الإنترنت.
• إنشاء هيئة رقابية مستقلة لرصد المحتوى الرقمي الضار.
2ـ الضغط على المنصات:
• إلزام فيسبوك وتلغرام بإزالة المحتوى التحريضي خلال 24 ساعة.
• التعاون مع فرق التحقق المحلية للتعرف على الحسابات الوهمية.
3ـ التوعية الرقمية:
• إطلاق حملات وطنية لتعريف الناس بخطورة الإشاعات.
• إدخال مفاهيم “التربية الإعلامية” إلى المدارس والجامعات.
4ـ سوريا الرقمية الجديدة: مستقبل أو فخ؟
لقد خُلق هذا الفضاء الرقمي ليكون فرصة. لكن دون وعي جماعي وتنظيم قانوني وإعلامي، سيبقى أداة في يد من يكرهون الوطن.
قد لا نستطيع السيطرة الكاملة على الإنترنت، لكننا قادرون على نشر مناعة ضد الكراهية. الكلمة سلاح، والخبر كالرصاصة، و”المنشور” قد يبني وطنًا أو يهدمه.
وفي هذه اللحظة المفصلية، على السوريين أن يقرروا “هل يريدون وطنًا حقيقياً، أم مجرد مساحة أخرى لصراع لا ينتهي؟”.
