صلاح الدين مسلم
في التقرير السياسي المقدم إلى المؤتمر الثاني عشر، يقدم القائد عبد الله أوجلان تحليلاً عميقاً للأزمات التاريخية والأيديولوجية التي تواجهها الحركات الاشتراكية والتحررية، مع التركيز على ضرورة تجاوز النموذج التقليدي للاشتراكية المشيدة نحو ما يسميه “الاشتراكية الديمقراطية”، هذه الرؤية لا تنفصل عن نقده للدولة القومية، وتشكل جزءاً من مشروعه الفكري والسياسي الرامي إلى بناء مجتمع ديمقراطي قائم على العدالة والحرية.
يرى القائد إنّ الاشتراكية المشيدة في القرن العشرين فشلت في تحقيق أهدافها بسبب اعتمادها على نموذج الدولة القومية والمركزية السلطوية، فبدلاً من تحرير الشعوب، تحولت إلى أداة لقمع الحريات وتكريس الهيمنة الطبقية تحت شعار “دكتاتورية البروليتاريا”، ويشير إلى أن هذا النموذج لم يستطِع تجاوز حدود الحداثة الرأسمالية، بل أصبح جزءاً من أزمتها، مما أدى إلى انهياره مع نهاية القرن الماضي.
وفي مواجهة هذا الإخفاق، يقترح القائد نموذجاً جديداً وهو “الاشتراكية الديمقراطية”، الذي يجمع بين القيم الاشتراكية والمبادئ الديمقراطية. تتميز هذه الرؤية بعدة عناصر أساسية:
ـ الكومونالية بدلاً من الصراع الطبقي: يرفض القائد فكرة الصراع الطبقي التقليدية ويستبدلها بثنائية “الدولة والكومون”، حيث يمثل الكومون القاعدة الأساسية للمجتمع الحر، فبدلاً من الصراع بين الطبقات، يركز على بناء مجتمعات محلية ديمقراطية تقوم على المشاركة والتضامن.
ـ الأمة الديمقراطية: كبديلٍ للدولة القومية، يدعو القائد إلى تشكيل “أمة ديمقراطية” تتجاوز الحدود الإثنية والدينية وتقوم على التعايش بين الشعوب، هذه الرؤية تهدف إلى حلِّ الإشكاليات القومية في الشرق الأوسط، مثل القضية الكردية، عبر نموذج لا مركزي وديمقراطي.
ـ الاقتصاد الإيكولوجي: ينتقد القائد النموذج الصناعي الاستغلالي ويطرح بديلاً يقوم على التوازن البيئي والعدالة الاجتماعية. الاقتصاد الإيكولوجي الذي يعدّه النموذج الاقتصاديّ، وهو جزء من رؤية أوسع لمجتمع مقاوم لفائض الإنتاج.
ـ تحرير المرأة: يعتبر القائد أن تحرير المرأة هو شرط أساسي لأي تحول اشتراكي ديمقراطي، فمن خلال نقد التاريخ الذكوري للحضارة، يرى أن المجتمع الحر لا يمكن بناؤه دون تحرر المرأة.
في سياق الحل الديمقراطي للقضية الكردية، يربط القائد بين الاشتراكية الديمقراطية وبناء السلام، فبدلاً من النضال المسلح، يدعو إلى تحولٍّ ديمقراطي في تركيا والمنطقة، يقوم على الاعتراف المتبادل وحل النزاعات عبر الحوار. فنداؤه الأخير لـ”السلام والمجتمع الديمقراطي” يعكس هذه الرؤية، حيث يرى أن السلام الحقيقي لا يتحقق إلا ببناء مؤسسات ديمقراطية تضمن حقوق جميع الشعوب. تقدم رؤية القائد للاشتراكية الديمقراطية إطاراً تجديدياً للنضال من أجل العدالة والحرية، يتجاوز إخفاقات الماضي ويطرح بدائل عملية للمستقبل. من خلال التركيز على الكومونالية والأمة الديمقراطية والاقتصاد الإيكولوجي، يسعى إلى بناء مجتمع لا مركزي يتجاوز هيمنة الدولة القومية والرأسمالية. هذه الرؤية، رغم تحدياتها، تبقى واحدة من أكثر المقاربات جرأةً وإبداعاً في عالم اليوم.