قامشلو/ سلافا عثمان ـ في نهاية شهر آذار من عام 2021، فُتحت أبواب “دار الرحمة لرعاية الأيتام” بمدينة قامشلو، لتكون أول مبادرة منظمة لرعاية الأطفال الأيتام، والفئات الأكثر هشاشة، ممن فقدوا أبويهم، أو تُركوا بلا مأوى ولا رعاية.
في زوايا مدينة قامشلو، خلف الأبواب الموصودة والأحياء المنسية، يعيش عشرات الأطفال الأيتام بلا سند، يتنقلون بين الحاجة والانكسار، وبين الافتقار للحماية والمستقبل المجهول، الطفولة هنا ليست كما نعرفها، بل تبدأ غالباً بالألم، وتتشكل في بيئات لا توفر الحد الأدنى من الأمان النفسي أو الاجتماعي.
اليتيم.. ليس من فقد والديه
لا ينحصر مصطلح “اليتيم” في قامشلو على الأطفال الذين فقدوا أبويهم، بل يشمل عدداً متزايداً من الأطفال الذين يعانون من اليُتم الاجتماعي، وهم من تم التخلي عنهم أو عزلهم قسراً عن ذويهم بسبب الفقر، أو الإدمان، أو التهجير، أو التفكك الأسري، أو عدم القدرة على تأمين السكن والمعيشة. فهؤلاء الأطفال، رغم وجود أحد الأبوين على قيد الحياة، يعيشون التحديات القاسية نفسها التي يعيشها يتيم الأبوين “غياب التوجيه، وفقدان الرعاية”.
وفي السياق، بينت لصحيفتنا “روناهي” مديرة دار الرحمة لرعاية الأيتام “انتصار علي“، وهي المبادرة الوحيدة شبه المنظمة في المدينة، إن أغلب من تستقبلهم الدار ليسوا مجرد أيتام بالمعنى القانوني، بل ضحايا لعجز الأسرة والمجتمع في آن واحد: “الوجع في عيون هؤلاء الأطفال ليس بسبب أنهم وحدهم فقط، بل لأن أحداً لم يقرر الوقوف إلى جانبهم حتى الآن”.
مأوى لا يكفي
وقد تم افتتاح “دار الرحمة لرعاية الأيتام” في نهاية آذار عام 2021، في محاولة لخلق بيئة آمنة للأطفال الأيتام في المدينة، بدأت الدار بخمسة أطفال فقط، واليوم تحتضن 26 طفلاً، مناصفة بين الذكور والإناث، تتراوح أعمارهم بين ستة أشهر و16 عاماً.
وقد مر على الدار حتى يومنا هذا أكثر من 55 طفلاً، بعضهم عاد إلى عائلته بعد تحسّن ظروف السكن أو الدخل، لكن العديد منهم عاد مرة أخرى بعد الفشل في الرعاية.
ويعمل في الدار طاقم مكوّن من 15 شخصاً “محاسب، أمين مستودع، ومرشد نفسي، ومعلمات، ومربيات ومقيمات 24/24، وطاقم إداري يتابع كل حالة على حدة، نفسياً وتعليمياً وسلوكياً”.
وأكدت انتصار، أن بعض العائلات تستعيد أبناءها لفترة قصيرة، ثم تعيدهم للدار، ما يخلق عدم استقرار نفسي لدى الطفل، الذي يتنقل بين بيئات غير متجانسة: “عندما يدخل الطفل إلى الدار، نعيد تنظيم سلوكياته ونوفر له نظاماً صحياً وتعليمياً، لكن خروجه وعودته لاحقاً يعيدنا إلى نقطة الصفر”.
حياة منظمة… بموارد محدودة
وبعد بلوغ بعض الأطفال، تم فصل المركز إلى قسمين “دار للإناث في حي الموظفين، ودار للذكور في حي المصارف”، وذلك منذ عام 2022، هذا الفصل أصبح ضرورياً نظراً لحساسية التعامل مع المراهقين.
كما بينت انتصار، بأنه يوجد الآن خطة قيد الدراسة لإنشاء قسم جديد لليافعين الذين يبلغون 18 عاماً فما فوق، على أرض تملكها الإدارة، بهدف تأمين مرحلة انتقالية بين الطفولة والاستقلال.
ويعتمد روتين الأطفال اليومي على برنامج تربوي ونفسي متوازن “الذهاب إلى المدرسة صباحاً، ثم الغداء، ساعة للنظافة والراحة، مراجعة دروس مع المعلمات، وبعدها أوقات للترفيه، والعشاء، وأنشطة تربوية كقراءة القصص أو دروس القرآن، لينتهي يومهم في العاشرة مساءً”.
وأشارت، إلى أن التحاق الأطفال بالمدرسة يتم عبر مدرسة “رسالة” الخاصة، التي تقدم التعليم مجانًا، بينما تتحمل الدار تكاليف النقل واللوازم المدرسية: “نحاول خلق جو يشبه البيت، فيه نظام ورعاية ودفء، رغم قلة الإمكانات”.
التبني محرّم من الأهالي
وحول فكرة التبني، أوضحت انتصار، أنه رغم أن بعض الأطفال في المركز لا يعيشون مع ذويهم، إلا أن فكرة التبني لا تزال غائبة تماماً، ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى العادات الاجتماعية، وإلى أن الأهل رغم غيابهم العملي لا يتنازلون قانونياً عن أبنائهم، وبالتالي لا يمكن فتح باب التبني أمام من يرغب باحتضان هؤلاء الأطفال ودمجهم في بيئة أسرية حقيقية: “نواجه صعوبة في شرح أن الطفل يحتاج عائلة حقيقية، لا مكاناً مؤقتاً، لكن التبني لا يزال مرفوضاً من الأهالي”.
ويبقى السؤال الأصعب: “ماذا بعد سن 18؟ لا توجد حتى اليوم آلية واضحة لرعاية اليتيم بعد هذا العمر، لذلك، تعمل الدار على مشروع “دار اليافعين”، ليكون بمثابة جسر بين الحياة المؤسسية وحياة الاستقلال، وفي بعض الحالات، تسعى الإدارة إلى توفير مشاريع صغيرة أو فرص عمل لمن لا يملك أسرة أو منزلاً يعود إليه”.
واختتمت مديرة دار الرحمة لرعاية الأيتام في قامشلو “انتصار علي” حديثها: “لا يزال مئات الأطفال يفتقرون إلى مأوى حقيقي، ليس فقط من الحجارة، بل من الأمان، هم بحاجة لمن يعاملهم كأبناء، لا كمستفيدين من الإحسان”.