محمد عيسى
بينما يُعاد تشكيل الجيش السوري في مرحلة ما بعد النظام، تبرز مفارقة صارخة بين دمج مسلحين أجانب في وحدات الجيش الجديد وبين قوى سورية خالصة كـ«قسد» نشأت من عمق الجغرافيا الوطنية. ويكشف قرار ضم غرباء عن الأرض والتاريخ عن اختلال في ميزان السيادة، ويفتح نقاشاً واسعاً حول الدستور والهوية ومستقبل سوري
من يمثّل السوريين؟
في خطوة اعتبرها مراقبون “ضرباً للدستور السوري وللقوانين الدولية عرض الحائط”، كشفت وكالة “رويترز” يوم الإثنين الثاني من حزيران 2025 عن اتفاق أميركي – سوري جديد يقضي بدمج مسلحين أجانب ضمن صفوف الجيش السوري النظامي. وأعلن المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، في تصريحات صحفية أن واشنطن “تتفهم” دوافع الحكومة السورية الانتقالية في هذا التوجه، بل وتعتبره خطوة “أكثر أماناً من ترك هؤلاء المسلحين طلقاء”.
ما جرى لم يكن مجرّد إعادة هيكلة لجيش دولة خارجة من حرب أهلية دامت 14 عاماً، بل كان انقلاباً واضحاً على مبدأ السيادة الوطنية، وإهانة صريحة لتاريخ المؤسسة العسكرية السورية، التي لطالما اعتُبرت خط الدفاع الأول عن الأرض والشعب، رغم كل ما شابها من فساد وهيمنة حزبية بعهد النظام السابق.
حسب الدستور السوري الذي لا يزال، من الناحية القانونية، ساري المفعول إلى حين إقرار دستور جديد، فإن “الجيش السوري هو مؤسسة وطنية، تقوم على خدمة الوطن والمواطن، ولا يجوز لأي عنصر أجنبي الانضمام إلى صفوفه بأي صفة كانت”. وهذا النص الذي ورد في المادة 11 من الدستور السوري لعام 2012، أصبح اليوم في مهب الريح.
الخطة الجديدة، كما سربتها مصادر رويترز، تشمل إدماج نحو 3500 مسلح أجنبي، غالبيتهم من الإيغور القادمين من الصين، إلى جانب مسلحين من الحزب الإسلامي التركستاني، وكتائب من الشيشان، القوقازيين، الأوزبك، الطاجيك، التركمان، والعرب. سيتم توزيع هؤلاء ضمن تشكيل عسكري جديد يُعرف بـ”الفرقة 84″، وهي وحدة حديثة النشأة يُفترض أن تضم أيضاً مجندين سوريين.
لكنّ الطابع العقائدي والتوجّه المتشدد لهؤلاء المسلحين يضع علامات استفهام جدية حول مدى انضباطهم في إطار جيش وطني، ناهيك عن ولائهم لسلطة دمشق الجديدة، لا سيما وأن كثيراً منهم قاتل سابقاً في صفوف القاعدة وداعش، أو على أقل تقدير ضمن تشكيلات “جهادية” متعددة الولاءات العابرة للحدود.
الخلفية الأميركية للمشروع
منذ إعلان الاتفاق الجديد بشأن دمج المسلحين الأجانب في الجيش السوري، بدأت تتضح معالم الدور الأميركي في هندسة هذا القرار، الذي يتجاوز في أبعاده الإجرائية مسألة الأمن، ليصل إلى حدود رسم شكل جديد للسيادة السورية المفترضة. في هذا السياق، برز اسم توماس باراك، السفير الأميركي السابق لدى تركيا والمبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سوريا، باعتباره عرّاب هذه الخطة التي وصفها مراقبون بأنها “إعادة تدوير جهادية تحت غطاء مؤسسات الدولة”.
باراك، الذي لطالما عُرف بميله للحلول الأمنية السريعة ولو على حساب المعايير الدستورية، أدلى بتصريحات مثيرة للجدل في مقابلة مع قناة NTV التركية، حين قال: «من الأفضل إبقاء المسلحين، وكثير منهم موالون للغاية للسلطة الجديدة في دمشق، ضمن مشروع الدولة، بدلاً من استبعادهم». هذه العبارة القصيرة كانت كفيلة بإشعال موجة من الانتقادات داخل وخارج سوريا، إذ بدت وكأنها تشرعن وجود مسلحين أجانب عاشوا سنوات في صفوف تنظيمات متطرفة، وتحولهم إلى عناصر رسمية في الجيش السوري الجديد لمجرد “الولاء”.
خلف هذا الخطاب “الواقعي”، تقف خطة أميركية أكثر عمقاً، تهدف إلى إنهاء العبء الأمني الذي يشكله هؤلاء المسلحون – وغالبيتهم من بقايا تنظيمات مرتبطة سابقاً بالقاعدة وداعش – عبر توجيههم نحو خدمة أهداف السلطة الانتقالية في دمشق، بدلاً من بقائهم كقنابل موقوتة في إدلب أو على الحدود التركية. ويبدو أن هذا الخيار ينسجم مع التحوّل الاستراتيجي الأوسع في سياسة إدارة ترامب الثانية، التي باشرت فعلياً تقليص قواعدها العسكرية في سوريا من ثمانية إلى قاعدة واحدة فقط، في مؤشر على نية تقليص الانخراط العسكري المباشر، مع الإبقاء على النفوذ عبر أدوات غير رسمية، سواء كانوا “شركاء محليين” أو جماعات سبق أن صنفتها واشنطن ذاتها إرهابية.
وفي خضم ذلك، لعب أحمد الشرع، رئيس المرحلة الانتقالية، دوراً محورياً في تمرير هذا التوجه، مدافعاً عن القرار باعتباره “أخف الضررين”. فقد نقلت مصادر دبلوماسية أوروبية عن الشرع قوله في اجتماعات مغلقة إن “دمج هؤلاء ضمن جيش منضبط أفضل من بقائهم في الفراغ”. إلا أن هذا الخطاب البراغماتي يصطدم بجدار السيادة، ويثير مخاوف جدية لدى شرائح واسعة من السوريين حول هوية الجيش المقبل، ومشروعية من يحمل السلاح باسمه.
جيش وطني لا يحتاج شهادة من الخارج
على الطرف الآخر، تقف قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، كحالة فريدة في المشهد السوري العسكري. أُسِّست قسد في 11 تشرين الأول 2015، كقوة وطنية جمعت العرب والكرد والسريان والآشوريين وغيرهم من شعوب شمال وشرق سوريا. لم تأتِ هذه القوة من الخارج، ولم تُفرض عبر قرار دولي، بل نشأت من حاجة ميدانية لمقاومة مرتزقة “داعش” الإرهابي، الذي كان قد بدأ بالتوغل في العمق السوري.
بلغ عدد مقاتلي قسد في سنوات الذروة قرابة 150 ألف مقاتل ومقاتلة، توزعوا على خمس مجموعات رئيسية. وكانت النواة الصلبة لهذه القوات وحدات حماية الشعب YPG ووحدات حماية المرأة YPJ، إلى جانب قوات الصناديد، المجلس العسكري السرياني، وجيش الثوار. كما ضمت التشكيلات مقاتلين من إدلب، حلب، الرقة، حمص، الحسكة، دير الزور، ومن الساحل السوري، بل وحتى من الجاليات الشركسية والأرمنية.
قسد لم تكتفِ بالدفاع عن مناطقها، بل شكّلت رأس الحربة في الحرب ضد مرتزقة “داعش” الإرهابي. وكانت مقاومة كوباني التي انطلقت في صيف 2014، العلامة الفارقة، حين صمدت القوات في وجه أعتى هجوم لداعش، بدعم جوي محدود من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. لاحقاً، كانت قسد القوة الأساسية في تحرير منبج، الطبقة، الرقة، دير الزور، وهجين.
على خلاف المليشيات المدعومة من الخارج، والتي قامت على الولاء الطائفي أو التبعية الإقليمية، بنت قسد قاعدتها الشعبية على مبدأ العيش المشترك. ورفعت شعار “سوريا لكل السوريين”، وتمكنت من خلق تجربة شبه ديمقراطية في مناطق نفوذها، رغم ما اعتراها من تحديات اقتصادية وأمنية.
تحظى قسد اليوم بدعم شعبي واسع في شمال وشرق سوريا. حتى خصومها باتوا يعترفون بأنها باتت نموذجاً لحالة عسكرية منضبطة، لا تشوبها الولاءات العابرة للحدود. وهذا الدعم الشعبي تجلى في قدرتها على الحفاظ على الأمن في مناطقها، والتصدي لمحاولات الاحتلال التركيّ، والتنسيق الأمنيّ مع التحالف الدوليّ ضد خلايا داعش المتبقية.
أي جيش نريد؟
الجدل اليوم لا يدور فقط حول أسماء التشكيلات أو أعداد المقاتلين، بل حول فلسفة وعقيدة بناء الجيش السوري الجديد. هل نريده جيشاً وطنياً نابعاً من الأرض ومن نسيج المجتمع السوري؟ أم نعيد إنتاجه كوحدة عسكرية هجينة، قائمة على إعادة تدوير بقايا التطرف؟
تجربة قسد تُقدَّم اليوم من قبل خبراء عسكريين ومحللين سياسيين كمشروع جيش وطني حقيقي، يتمتع بالانضباط، التنوع، والتماسك. ولديها بنية تنظيمية واضحة، وخبرة قتالية واسعة، وقاعدة جماهيرية عريضة. في المقابل، نجد مشروع الفرقة 84 – التي ستضم مسلحين أجانب سابقين – مشروعاً غامضاً محفوفاً بالمخاطر، سواء من الناحية الأمنية أو السياسية.
التحدي الأكبر الذي يواجه سوريا في هذه المرحلة الانتقالية هو بناء مؤسسات حقيقية تعكس هوية السوريين وتطلعاتهم. ولا يمكن تحقيق ذلك عبر صفقات سياسية مع مسلحين أجانب أو بإعادة تدوير تنظيمات متشددة. بل يجب أن ينبع الحل من الداخل، من القوى التي واجهت الإرهاب، ودفعت الثمن من دماء أبنائها.
اليوم، وفي خضم الحديث عن إعادة هيكلة الجيش السوري، لا بد أن يكون النقاش صريحاً وجريئاً: هل نريد جيشاً سورياً بامتياز، يتبنى عقيدة وطنية، ويُبنى على أسس دستورية واضحة؟ أم نكرر تجربة الأنظمة السابقة، التي حوّلت الجيش إلى أداة قمع داخلي، أو ورقة تفاوض في يد الخارج؟
قسد، بتجربتها الواقعية، تُقدّم إجابة. تجربة سورية خالصة، نشأت من رحم المعاناة، وقامت على التحالف بين مختلف الشعوب، ووضعت نصب عينيها هدف حماية الأهالي، لا حماية الكرسي. هذه التجربة تستحق أن تُبنى عليها رؤية مستقبلية للجيش السوري الجديد.
بينما تتجه بعض دوائر القرار في دمشق وواشنطن نحو هندسة واقع جديد للجيش السوري، قد يتحوّل لاحقاً إلى نسخة محدثة من الجيوش المرتزقة، تقف “قسد” كنموذج ساطع على ما يمكن أن يكون عليه الجيش السوري الوطني: مؤسسة وطنية، منبثقة من الأرض والناس، لا تحمل ولاءً إلا لسوريا وشعبها. فالتاريخ لا يرحم، والمستقبل لن يُبنى إلا على أسس سليمة، والدستور يجب أن يكون حجر الأساس، لا حائطاً يُخرق عند أول صفقة سياسية.