عبد الوهاب بيراني
في مشهدٍ ثقافي نادر وفريد من نوعه، شهدت صالة مركز اتحاد مثقفي روج آفايي كردستان بمدينة قامشلو خلال الأسبوع الأخير من شهر أيار 2025 افتتاح المعرض الأول الفردي للفنانة الكردية السوريّة زوزان بطال، تحت عنوان “حينما يتحدث الورق”، حيث لم يكن المعرض مجرد عرض لأعمال فنية، بل تجربة بصريّة غنية أعادت تعريف العلاقة بين الورق والهوية، وبين الفن والبيئة، عبر فن الأوريغامي الياباني الذي اتخذ على يد زوزان لوناً كردياً خالصاً.
الأوريغامي أو طي الورق، هو فن ياباني عريق يعتمد على تقنيات هندسية لتحويل الورق إلى أشكال ثلاثية الأبعاد دون قص أو لصق، غير أن هذا الفن، رغم بساطة أدواته، يتطلب الكثير من الدقة والخيال واللمسة الفنية، وهو ما تمكنت زوزان بطال من تطويعه بطريقة فريدة، لتكون أول فنانة ليس على مستوى روج آفا فقط، وإنما على مستوى عموم كردستان لتخوض هذا الميدان العالمي وتمنحه خصوصية محلية، كردية لافتة.
في “حينما يتحدث الورق”، تفتح الفنانة التشكيلية الكردية نافذة غير مألوفة على عالم الأوريغامي، حيث منحته بُعداً آخر حينما ألبسته ثوب كردستان، وجعلته يتحدث الكردية، فمزجت فيه الجمال البصري بالدلالات البيئية والرمزية الأسطورية، وجعلت من الورق مساحة حرة للتعبير عن قضايا معاصرة ومعاني ضاربة في عمق الثقافة الكردية.
من خلال طيات دقيقة وألوان نابضة بالحياة، أعادت زوزان سرد أسطورة شاه ماران، حيث تجسدت المرأة الأفعى برأس مائل يوحي بالثقة والألم في آنٍ واحد، تحيط بها طيات معقدة كأنها أسرار خيانة وأحلام ضائعة، فلم تكن اللوحة مجرد تمثيل أسطوري، بل قراءة رمزية لمسار المرأة الكردية، حيث تتقاطع الحكمة بالخذلان، والوفاء بالضياع، في مشهدٍ يستنطق الذاكرة الجمعية ويمنح الأسطورة حياة جديدة ضمن بيئة معاصرة.
وتنقلنا فنانة الورق إلى مشهدٍ ريفي تتكرر فيه الحياة اليومية لكن بأبعاد مختلفة، امرأة تطحن القمح بالرحى، تبدو كأنها تشكل التاريخ بيديها، تخلق من الطحين كينونة لرغيف يرتبط بالأرض والمقاومة، حيث تتوحد الأمومة بالخصب، واليد الصابرة بالهوية الصامدة، فاللوحة لا تروي مشهداً منزلياً عادياً، بل تحاكي روح المرأة الكردية التي تعيد تشكيل العالم من أبسط مفرداته، وتحمل عبء الحياة على حجر الرحى كما تحمله على كتفها.
أما لوحة قارب الأمل، فتنبض بهمٍ إنساني ثقيل، حيث يتحول الورق إلى شاهدٍ على رحلة اللاجئين، أولئك الذين تركوا حقول القمح والأمهات الحزينات بحثاً عن أمان بعيد.. القارب المائل فوق صفحة بحر عميقة لا يعبّر فقط عن خطر الرحلة بل عن خذلان العالم، فيما تنطق أعين المهاجرين الورقية بالحيرة والرجاء، معلقة في الفراغ بين الغربة والانتماء، هنا يصبح الورق وسيلة لرواية الألم وفضاءً للبكاء الصامت الذي يعبر القارات.
وفي لحظة صفاء تتجسد في لوحة الخيول، يلتقي الحصان والفرس وسط طبيعة ملونة بالزرقة والخضرة، يعلو من خلالها صوت السكينة والحرية.. الحصان رمز الانطلاق في المخيلة الكردية، لا يعدو كعادته بل يستريح، وكأنه يعيد التفاوض مع المكان بعد عقود من النفي والحرب، وفي هذه اللوحة لا تدعو زوزان إلى تأمل الطبيعة فقط، بل تحث على حمايتها من التشويه والتدمير، وتدعو لتحويل ساحات الألم إلى مرابع للسلام والاتساق.
ولا يغيب التراث عن سرديتها البصرية، ففي لوحة المرأة الكردية الحاملة لجرة الماء، ينبض الزي التقليدي بألوان الربيع وحيوية الأمل، وكأنها هذه المرأة الكردية لا تروي عطشاً جسدياً فقط، بل تعيد الحياة إلى الأرض، وتغذي بأحلامها جذور العودة، فتتحول الجرة إلى رمز للحفاظ على الهوية، وتغدو ألوان التطريز شهادة مقاومة ناعمة في وجه حداثة عابرة لا جذور لها.
بهذا المزج الفريد بين التقنية اليابانية والدلالات الكردية، لم تكتفِ زوزان بطال بفن الطي، بل حملته ألواناً دافئة وإكسسوارات بسيطة، لتخلق عالماً بصرياً مشبعاً بالدقة والانتماء، فجعلت من كل لوحة قصيدة من ورق، تتحدث عن قضايا الأرض، وتنبض بأحلام المرأة، وتستبطن شذرات من التراث والأسطورة والطبيعة، فلم تكن الورقة في يدها خاملة، بل كائناً حياً يحمل رسالة، ومجالاً للتعبير عن وعي بيئي واجتماعي معاصر يرى في الفن وسيلة لاستعادة المعنى في عالم آخذ بالتشظي.
المعرض الذي لاقى صدىً واسعاً لدى الحضور لم يكن حدثاً عابراً، بل علامة على ولادة فن بصري جديد في المنطقة وروج آفا، فن يدمج بين العولمة والخصوصية، بين الحداثة والذاكرة، وبين الجمال والرسالة.
لقد منحت زوزان بطال الورق صوتاً، ومنحت الكرد نافذة أخرى للتعبير، حيث لا تحتاج أدوات باهظة أو تقنيات معقدة، بل يكفي أن تملك ورقة وبعض خيال، وقلباً لا يكف عن الحلم.
شكراً زوزان لأنكِ منحتِ الورق بوحاً كردياً أصيلاً، ومنحتِ روج آفا هذا الفن النادر، وفتحت لنا نافذة نطلُّ منها على جمال خفي، مغمور في طيات الورق… وعمق الانتماء.
البطاقة التعريفية الفنية للفنانة زوزان بطال
– مواليد الحسكة، تعيش مع أسرتها بمدينة قامشلو – خريجة معهد إعداد المعلمين- رياضيات عام 2003
– عملت مدرسة لمادة المعلوماتية.
– عملت مدربة في دمج التكنولوجيا بالتعليم
– انتقلت مع عائلتها إلى باشور كردستان 2016، وعادت إلى قامشلو عام 2023
– متزوجة من الكاتب والفنان التشكيلي عمار موسى، أم لطفلين سازفين والفنان التشكيلي ساوشكا.
ـ أقامت معارض شخصية وشاركت في العديد من المعارض المشتركة والعائلية، في روج آفا وباشور كردستان.
– حصلت على عدة شهادات تقدير.
– تم اقتناء لوحاتها من مؤسسات ومنظمات داخل سوريا وبروج آفا وإقليم كردستان ودول أوروبية.
