د. مرشد اليوسف
في لحظة إقليمية متأزمة وتوازنات دولية شديدة التعقيد، جاءت زيارة رئيس وزراء إقليم كردستان العراق، مسرور البارزاني، إلى الولايات المتحدة الأمريكية (أيار 2025)، لتعيد فتح ملف الشراكة الكردية – الأمريكية ضمن سياق أوسع من التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط.
وبينما انصبّ التركيز الإعلامي على أبعاد الزيارة الاقتصادية والأمنية الخاصة بإقليم كردستان. وبدا لافتًا الغياب الرسمي لأي تناول مباشر لتأثيراتها المحتملة على الإدارة الذاتية الديمقراطية في روج آفا وشمال وشرق سوريا.
وهنا في هذه المقالة سأحاول تحليل التأثيرات غير المباشرة لزيارة البارزاني إلى واشنطن على مستقبل الإدارة الذاتية، من حيث تموضعها السياسي، ومن حيث إمكانيات الانفتاح الدولي عليها، ومن حيث انعكاس الزيارة على العلاقات البينية الكردية التي طالما شابها التوتر والقطيعة بين الحين والآخر.
والحقيقة إن هذه الزيارة ليست حدثًا معزولًا، بل تأتي في إطار علاقات ممتدة بين واشنطن وهولير منذ 1991، حين شكّلت الولايات المتحدة منطقة الحظر الجوي في شمال العراق “باشور كردستان”.
ومنذ سقوط نظام صدام حسين بات إقليم كردستان فاعلًا شبه مستقل في السياسة العراقية، ويتمتع بقدر ملحوظ من السيادة السياسية والعسكرية والاقتصادية
وفي المقابل ورغم الشراكة العسكرية بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والتحالف الدولي، بقيت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا خارج أي إطار اعتراف سياسي دولي، في وقتٍ تواجه فيه التهديدات التركية المستمرة، والضغوط الاقتصادية، والاستعصاء في الحوار مع دمشق.
ومن هذا المنطلق، تشكّل زيارة البارزاني إلى واشنطن لحظة -اختبار- هل سيتم التعامل مع الكرد كشركاء استراتيجيين في المنطقة بشكلٍ عام، أم سيبقى الاعتراف مقتصرًا على نموذج هولير فقط ؟ وهل يُمكن أن تُفضي نتائج الزيارة إلى الانفتاح الأمريكي الأوسع نحو الملف الكردي السوري؟
الأبعاد السياسية للزيارة وتأثيرها على روج آفا
تعكس لقاءات مسرور البارزاني مع المسؤولين الأمريكيين الرفيعي المستوى بما فيهم الشخصيات من مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، رغبة واشنطن في تثبيت علاقتها التاريخية مع الكرد باعتبارهم قوة استقرار، وشريكًا موثوقًا في ملفات الأمن، والطاقة، ومكافحة الإرهاب.
وإذا ما وُسّع نطاق هذا المنطق، فإن الإدارة الذاتية قد تجد نفسها في موقع يسمح بالمطالبة بإعادة تقييم العلاقة معها، لا بوصفها شريكًا عسكريًا فقط، بل كفاعلٍ سياسي له مشروع واضح يقوم على الديمقراطية واللامركزية.
ومن جهةٍ أخرى، قد تُفسَّر الزيارة بوصفها تكريسًا لنموذج إقليم كردستان العراق كممثلٍ وحيد للكرد في العلاقة مع واشنطن، وهو ما يحمل مخاطر إقصاء غير مباشر لروج آفا، ولكن هذا الافتراض مستبعد في الوقت الحاضر.
وسياسيًا، قد يشكّل هذا الانفتاح الأمريكي على هولير حافزًا لدمشق لإعادة النظر في تعاملها مع الملف الكردي السوري، لا سيما إذا شعرت أن واشنطن بصدد تعزيز قوى الحكم الذاتي على حدود سوريا الشرقية. كذلك، فإن القوى العربية والإقليمية قد تعيد قراءة موقع الإدارة الذاتية في ضوء هذا المشهد، خصوصًا إذا استطاعت روج آفا أن توظّف اللحظة كمنصة لإعادة التموضع السياسي المتزن.
وعلى ضوء تقاطع المصالح الأمنية بين هولير وواشنطن في ملف مواجهة فلول داعش، وكذلك في ضمان استقرار المناطق الحدودية.
يمكن أن تفتح الزيارة بابًا نحو تشكيل آليات تنسيق أمني فعّال بين قوات البيشمركة وقوات سوريا الديمقراطية، لا سيما في مناطق الشدادي وشمال دير الزور وشنكال، حيث تتقاطع الجغرافيا والتحديات.
وعلى المستوى الردعي، فإن زيارة البارزاني تُمثّل رسالة سياسية إلى الأطراف الإقليمية، لا سيما تركيا، مفادها إن واشنطن لا تزال ترى في الكرد قوة توازن.
وإذا ما قُرِئ هذا المعطى من زاوية روج آفا، فإنه يمنحها مساحة مناورة جديدة في مواجهة التهديدات التركية المستمرة، مع التأكيد على ضرورة أن تطور روج آفا علاقاتها مع الشركاء الدوليين، لا سيما فرنسا وألمانيا.
إمكانيات التكامل الاقتصادي والإنساني
تشهد مناطق شمال وشرق سوريا أزمة اقتصادية، بفعل العقوبات، والحصار. وفي المقابل، فإن ملف الطاقة كان حاضرًا في لقاءات البارزاني مع المسؤولين الأمريكيين، وهو ما يفتح نظريًا الباب أمام التفكير في مشاريع التكامل الاقتصادي الكردي – الكردي، وتشمل نقل النفط، والاستثمار في الزراعة، ودعم المنظمات الإنسانية العاملة في المناطق الكردية السورية (روج آفا).
غير أن تحقيق هذه الإمكانيات مشروط برفع مستوى التنسيق السياسي بين هولير وروج آفا، وتجاوز حالة الشك المتبادل. كما يتطلب الأمر دعمًا أمريكيًا صريحًا لمثل هذه المشاريع العابرة للحدود، ضمن مقاربة تنموية لا تعارض وحدة الدول القائمة.
وضمن السياقات المذكورة فإن زيارة رئيس وزراء إقليم كردستان إلى واشنطن، بما تحمله من رمزية ودلالات استراتيجية، تُقدِّم للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا لحظة تأمل ضرورية.
إذ أن استثمار هذه اللحظة لا يكون عبر الخطاب الإعلامي فقط، بل من خلال تفعيل قنوات الحوار الكردي ـ الكردي على أسس نفعية ومصيرية مشتركة. وإرسال رسائل واضحة إلى واشنطن بخصوص جاهزية الإدارة الذاتية للانخراط في ترتيبات سياسية أكثر شمولًا.
وتقوية الموقع السياسي الداخلي عبر تعزيز التعددية، والمأسسة، والانفتاح الأوسع على مكوّنات المنطقة خاصةً من ناحية الخدمات. والبناء على ما تحقق في الميدان لترسيخ الخطاب السياسي العقلاني الذي لا يصطدم بالواقع الإقليمي بل يحاوره.
وبهذا المعنى، فإن اللحظة الراهنة قد لا تكون نقطة تحول حاسمة، لكنها بلا شك فرصة استراتيجية، يجب على روج آفا ألا تتركها تمرّ دون أثر.
