شادي لويس
أرادات فاطمة حسونة، المصورة الصحافية الغزية، أن يكون موتها صاخباً وصادماً. قبل استشهادها كتبت “إذا متّ، أريد أن موتاً مدوياً، لا أريدني في خبر عاجل أو رقم ضمن مجموعة. أريد موتاً يسمع به العالم، وأثراً يظل مدى الدهر”. لم تخرج فاطمة حسونة قط من غزة ولم تعرف أي مكان آخر غيرها.
الفيلم الوثائقي “ضع روحك على كفك وامشِ” للمخرجة الإيرانية سبيده فارسي، والذي يوثق حياة فاطمة حسونة أثناء الحرب الجارية، كان نافذتها الوحيدة على العالم، أو بالأحرى نافذة العالم الضيقة على حياتها القصيرة والتي لم تتجاوز 25 عاماً.
سبيدة فارسي المولودة في إيران وتقيم حالياً في فرنسا، معتادة على تصوير أفلام تحت الحصار، فهي قامت من قبل بتصوير فيلم وثائقي في السر في بلدها الأم باستخدام كاميرا هاتفها المحمول. في غزة المعزولة عن العالم منذ أكثر من عام ونيف، تصير فاطمة حسونة هي عين الفيلم وموضوعه في آن، بينما تتطور العلاقة بينها وبين سبيدة فارسي من بُعد. في 16 من الشهر الماضي، وهو اليوم التالي لإعلان مهرجان “كان” اختيار الفيلم للعرض في التظاهرة الموازية للمهرجان، “أسيد”، استهدف صاروخ إسرائيلي المبنى حيث تقطن في حي التفاح شمالي غزة. استشهدت فاطمة حسونة مع 10 من أفراد أسرتها، كل أفراد أسرتها باستثناء والدتها، لتنضم إلى أكثر من 200 صحافي فلسطيني قتلوا منذ اندلاع الحرب.
بحسب تقرير لمنظمة “فورينزك أركيتكشر”، وهي مجموعة بحثية مقرها المملكة المتحدة، كانت قد حققت في الماضي في مقتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، فإن مقتل فاطمة حسونة كان متعمّداً ومخطّطاً له: “الصواريخ التي أسقطها الجيش الإسرائيلي استهدفت تحديداً شقة عائلة فاطمة حسونة في الطابق الثاني من المبنى المكون من خمسة طوابق”. كان قتل فاطمة حسونة وعائلتها عقاباً لها على اختيار الفيلم للعرض في المهرجان العالمي، وبياناً عملياً على أن لا حصانة يمكن أن تسبغها السينما أو الفن أو الشهرة على الفلسطيني، بل على العكس تلك المرئية والحضور في منصة عالمية تجعل منه هدفاً سهلاً، وبلا تبعات. ما يقصده قتل حسونة هو إثبات لا جدوى السينما، ليس بالعموم بل للفلسطينيين على وجه التحديد.
في اليوم الأول من مهرجان “كان”، وقّع أكثر من 350 شخصية سينمائية، من بينهم بيدرو ألمودوفار وديفيد كروننبرغ وأديل إكزاركوبولس وروبن أوستلوند وريتشارد غير، رسالة مفتوحة تندد بالصمت تجاه مقتل فاطمة حسونة وتجاه الإبادة في غزة. يتساءل الموقعون في استنكار: “ما فائدة مهنتنا إذا لم نأخذ دروسًا من التاريخ، لنصنع أفلامًا ملتزمة، إذا لم نكن موجودين لحماية الأصوات المضطهدة؟”.
السؤال الواجب والأكثر إلحاحاً، والذي لم يتعرض له الموقّعون، هو: ما جدوى صناعة أفلام ملتزمة إن كانت تقود أبطالها إلى القتل؟ أو ما معنى أن يصير فيلم ملتزم مجرد عدٍّ تنازلي نحو الموت أو شاهد مقبرة سينمائياً يستدر بعض الدموع في قاعة عرض ويضيف إلى رصيد صناعه جائزة أخرى؟
تمنّت فاطمة حسونة أن تحضر العرض الأول لفيلمها في المهرجان، أن تخرج من “صندوق غزة” لترى العالم لمرة واحدة ثم تعود. لكن بدلاً من ذلك نالت موتاً له صوت عال، وذلك مقارنة بأقرانها الذين يضاف العشرات منهم كل يوم إلى عدّاد الموت. قرأت رئيسة المهرجان، الممثلة الفرنسية جولييت بيونش، قصيدة لفاطمة حسونة، وألقت كلمة مؤثرة بشأن مقتلها في افتتاح المهرجان، ويوم الخميس الماضي وحين عرض الفيلم للمرة الأولى، وقف الحاضرون تكريماً لذكرى بطلته. لكن كان هذا كل شيء، والقتل مستمر.