دجوار أحمد آغا
المدخل
شهر أيار مليء بالأحداث المؤثّرة في حياة الكرد وتاريخهم بالدرجة الأولى، فمثلاً أول تقسيم رسمي لكردستان بين العثمانيين والصفويين، جرى في 17 أيار 1639، من خلال عقد معاهدة قصر شيرين، وأن التقسيم الثاني لكردستان إلى أربعة أجزاء كان في 16 أيار 1916، في معاهدة سايكس بيكو، التي قسمت الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ بين الإنجليز والفرنسيين.
وجاءت معاهدة لوزان التي قسّمت كردستان رسمياً الى أربعة أقسام، وفي الخامس عشر من أيار من عام 1932، أصدر الأمير جلادت بدر خان أول مجلة كردية في دمشق، وأصبح هذا اليوم عيداً للغة الكردية، كما جرى في الثامن عشر من أيار سنة 1977، اغتيال أحد مؤسسي حزب العمال الكردستاني، الشهيد حقي قرار، ومؤخراً شهدت أيام 5 / 6 / 7 أيار 2025 انعقاد المؤتمر الثاني عشر التاريخي لحزب العمال الكردستاني.
كردستان بين العثمانيين والصفويين
الصفويون ينتسبون إلى طريقة صوفية أنشأها الشيخ، صفي الدين الأردبيلي، في القرن الرابع عشر الميلادي، ومن ثم تحولت من حركة صوفية سلمية، إلى حركة عسكرية، وسياسية، بعد تسلم إسماعيل الصفوي الحركة، الذي أعلن نفسه إماماً وقائداً للدولة الصفوية عام 1501م.
تبنت الدولة الصفوية، التي نشأت في إيران المذهب الشيعي الاثني عشري، وجعلته مذهباً رسمياً للدولة، ما أدى إلى تأزم العلاقات مع الدول المجاورة السنية، الأمر الذي دفع إلى صراع، ومن ثم حرب ضروس بين العثمانيين والصفويين.
أما العثمانيون فقد كانوا قد استغلّوا الدين الإسلامي، منذ قدومهم من صحراء قره قوم، إلى الأناضول، وأظهروا أنفسهم بأنهم حماة المذهب السني، وأقاموا خلافة بني عثمان، بعد الخلافة العباسية، والتي يرونها الوريثة الشرعية للإسلام.
معركة جالديران، جرت وقائعها على أرض كردستان، وأغلب ضحاياها كانوا من الكرد سواء في الجانب العثماني، أو الصفوي، هذه المعركة جرت في 23 آب 1514، بين العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول، وشاه الصفويين إسماعيل الأول، وكان للكرد، دور كبير في ترجيح كفة العثمانيين وانتصارهم في المعركة، ومن ثم احتلالهم عاصمة الصفويين “تبريز”، فلولا انضمام قوات الإمارات والعشائر الكردية، إلى القوات العثمانية، بناء على اتفاق وقع بين الملا إدريس البدليسي، والعثمانيين، على أن يقوم الأمراء الكرد، بمدهم بالرجال والسلاح، مقابل الاستقلال للإمارات الكردية.
معركة جالديران، غيّرت الكثير من المفاهيم، التي كانت سائدة قبلها، كما أنها تعدُّ من الأحداث التاريخية في الشرق الأوسط، وكانت بداية في غاية الأهمية للعثمانيين، للتوسع والتمدد في عموم الشرق الأوسط، وصولاً إلى شمال أفريقيا، إذ لولا مساعدة الكرد، وتحالفهم مع العثمانيين لما استطاعوا الانتصار في جالديران، على الصفويين، ولما كان بمقدورهم التوجه إلى المناطق الأخرى في الشرق الأوسط.
كردستان ومعاهدة قصر شيرين
صحيح أن العثمانيين قد انتصروا عسكرياً على الصفويين، في معركة جالديران، إلا أنهم لم يستطيعوا تحقيق سيطرتهم المركزية على كردستان، بسبب وجود إمارات كردية شبه مستقلة، وكان قد وعدهم السلطان العثماني بالامتيازات، وبقائهم في إماراتهم، كما أن قسم من كردستان بقي تحت سيطرة الصفويين (ما تُعرف اليوم روجهلات كردستان)، واستمر الصراع الصفوي العثماني، مدة 150 عاماً، هذا الصراع جلب الويلات إلى كردستان، وشعبها.
كان الصراع مستمراً والحملات العسكرية تتواصل، إلى أن تم الاتفاق في العام 1555، على عقد معاهدة سميت “آماسيا”، نسبة إلى المدينة التركية التي تم توقيع الاتفاقية فيها، والتي بموجبها اعترف الصفويون، بخط الحدود بينهم وبين العثمانيين، الممتد من يريفان في الشمال إلى البصرة في الجنوب.
بالقرب من كرمانشاه، الواقعة في منطقة كردستان بأقصى جنوب شرق كردستان، تقع مدينة “قصر شيرين”، هذه المدينة الكردية العريقة، والتي اشتهرت بالقصر الذي بناه كسرى أبرويز، ملك الفرس لمحبوبته شيرين، تم بناؤه بغرف تشبه السراديب بحيث يكون القصر مرتفعاً، ومساحة الصالة كبيرة، ويوجد أمام القصر حديقة بطول 372 متراً، وعرض 190 متراً.
ويُقال: إن فرهاد كان يعشق شيرين، وبعد موت كسرى أبرويز، تقدم للزواج منها، وهو أمير في قومه، فما كان من الفرس، الا أن اشترطوا عليه شرطاً تعجيزياً، للحيلولة دون زواجه منها، والشرط كان أن يحفر نفقاً في جبل بيستون، لإيصال المياه إلى مجراها، قبل فرهاد الشرط، وكاد أن ينجح ولكن في نهاية المطاف تفجرت المياه من الجبل، وسقط فرهاد، شهيداً لعشق شيرين، التي ألقت نفسها إلى جانبه فتم دفنهما في قبرين جنباً إلى جنب.
معاهدة قصر شيرين، هي أهم معاهدة يتم التوقيع عليها بين العثمانيين والصفويين، كما أنها تُعدّ المعاهدة الأكثر إيلاماً في تاريخ الكرد، لأن اتفق فيها المحتلون لكردستان، على تقسيمها بينهم بشكل رسمي، ففي 17 أيار 1639، وفي منطقة كرمانشاه، وبعد 13 يوماً من المفاوضات، تم توقيع هذه المعاهدة في قصر شيرين، من جانب السلطان العثماني مراد الرابع، والشاه الصفوي عباس الأول، رسمت هذه المعاهدة حدوداً بلغت “2185” كم، بموجب هذه المعاهدة استولت الدولة الصفوية، على أرمينيا، وأذربيجان، وجورجيا، بينما أصبحت بغداد، والبصرة، وباشور كردستان، من حصة العثمانيين، بقيت هذه الحدود على وضعها إلى يومنا الحاضر، على الرغم من عقد بعض الاتفاقيات بين الطرفين، خلال الفترات اللاحقة كمعاهدة “كردن”، الموقعة مع نادر شاه عام 1746، ومعاهدة أرضروم الأولى 1832، والثانية 1847، إن الحدود الحالية بين ايران، وتركيا، والعراق، تستند إلى هذه الاتفاقية، التي قسّمت كردستان للمرة الأولى رسمياً إلى قسمين.
المعاهدة وتأثيرها على الكرد
تكمن أهمية هذه المعاهدة في المرحلة التاريخية المليئة بالصراعات القائمة في المنطقة بين الطرفين الرئيسيين من جهة، وبينهم وبين الأمراء الكرد، من جهة أخرى، وبين الأمراء الكرد أنفسهم في بعض الأحيان، هذه الاتفاقية قسّمت كردستان بشكل رسمي ونهائي بين العثمانيين والصفويين.
بعد عقد هذه المعاهدة، ازداد التقارب بين الإمارات الكردية، “شبه المستقلة”، وبين العثمانيين، الذين التفتوا إلى فتوحاتهم للبلدان الأوروبية، وسحبوا القسم الأكبر من جيوشهم من منطقة كردستان، إلى القسم الغربي، لكن الكرد لم يستغلوا هذا الأمر في الإعلان عن استقلال بلادهم، والسبب أنه نشأت طبقة كردية تستند في وجودها إلى المحتل، ولا تستطيع العيش دونه، سواء مع الصفويين أو العثمانيين، وكان هذا الأمر في غاية الخطورة، وأثّر بشكل مباشر على النضال التحرري الكردي فيما بعد.
أدت المعاهدة إلى تقسيم الكرد بين دولتين، وتم رسم حدود لا يمكن تجاوزها من جانب العشائر الكردية، الأمر الذي أدى إلى تقسيم العشائر، والقبائل الكردية، التي غالباً ما كانت تقوم بالرعي في السهول، وتلجأ إلى الجبال في الصيف، لما فيها من مراعٍ ومياه، هذه المعاهدة قسّمت الشعب الكردي، والعشائر، إلى جزئين منفصلين، تحت سيطرة طرفين متصارعين، على طرفي نقيض في الكثير من الأمور، إلا في القضية الكردية فهم يتفقون عليها تماماً.
بالتأكيد فإن الخاسر الأكبر من هذه المعاهدة، كان الكرد، سواء من وقف إلى جانب الصفويين أو من وقف في صف العثمانيين، فكردستان تم تقسيمها رسمياً إلى قسمين، كما سمحت هذه المعاهدة للعثمانيين بالتوجه إلى الغرب، واحتلال دول البلقان، ووسط أوروبا، في ظل الهدوء الذي حظيت به في كردستان، وما أن تراجعت في الغرب التفتت إلى كردستان، وقضت على الإمارات الكردية، الواحدة تلو الأخرى، واستمرت خليفتها تركيا على الأمر ذاته، الأمر نفسه قامت به الدولة الصفوية، ومن بعدها وريثتها إيران، بالإمارات الكردية الواقعة في منطقتها، وبالتالي كان الكرد هم الخاسر الأكبر.
معاهدة “قصر شيرين” كانت البداية التي أدت فيما بعد إلى عقد الحلفاء معاهدة “لوزان” في 24 تموز 1923، والقضاء على آمال وأهداف الكرد في تحرر وطنهم الأم كردستان، استناداً إلى قرارات معاهدة سيفر 1920 التي ذكرت الكرد بالاسم في المواد 62 / 63 / 64.
العثمانيون خلال مرحلة عقد اتفاقية “قصر شيرين”، لم يكونوا قد فكّروا بالقومية التركية وقتها، كان طموحهم أكبر، حيث استغلوا الإسلام، وفرضوا أنفسهم سلاطين على بقية الشعوب المسلمة، لذا نرى كيف أنهم كانوا منفتحين على الإمارات الكردية، طالما لا تقف عقبة في طريق بناء سلطنتهم، الأمر الذي أطال عمر الإمارات الكردية، ولو إلى حين، إيران وتركيا تسعيان جاهدتين إلى كسب الكرد، مرة أخرى، إلى جانبهم من أجل الحفاظ على كياناتهم المصطنعة، لكن هذه المرة الكرد لديهم مشروعهم المتمثل بفكر وفلسفة الأمة الديمقراطية، التي من خلالها سيتم حل القضية الكردية، وقضايا شعوب المنطقة.