برادوست ميتاني
تقع مدينة كلس حالياُ في شمال كردستان الملحقة منذ الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى بالدولة التركية إلى الغرب من مدينة كركميش التي تسمى حالياً جرابلس في روج آفا التي لحقت بسوريا أيضاُ بعد الحرب العالمية الأولى.
تاريخياً تعود جرابلس إلى الألف الخامسة قبل الميلاد. بالعودة إلى أحد أسلاف الكرد الخوريين (الحوريون) 3000 ق.م كان اسمها كركميش أي تل الجاموس أو نسبة إلى كلكامش الأسطوري الذي كتب عنه الخوريون بأبجديتهم الخاصة ملحمة كلكامش.
تبعت عام 1400 ق.م للهيتيين (الحيثيون) الآريين وصارت عاصمة لهم ومن بعدهم الميتانيين. هذان الشعبان اللذان يشكلان بدورهما إثنين من أسلاف الكرد.
منذئذ لم يغب الكرد عن تلك المنطقة كجزء من روج آفا بل عاصروا فيها أشكال الحكم وبناء الحضارة بدءًا بأسلافهم الكاشيين والخوريين والهيتيين والميتانيين والكالتيين والميديين وصولاُ إلى الإمارة الجانبولاتية، تلك الحضارات التي يستمد الكرد منها بداية وجودهم التاريخي في سوريا:
العاصمة: هي مدينة كلس الواقعة في منطقة عفرين من جهة الشمال. 
الإمارة ورقعتها: تشمل القسم الغربي من روج آفا ومساحات واسعة من سوريا ممتدة إلى مناطق من باكور (شمال) كردستان.
وتضم مدن: العاصمة كلس، وإعزاز، وجرابلس، ومنطقة جبل الكرد وقلعة باسوطة ومدينة عفرين وصولا للقصير في حمص، وكانت “أضنة” ضمن تلك الجغرافية وأحياناً حلب وحتى مدينة غزة.
جانبولات، اسم كردي مركب من معنيين. جان أي الروح أو النفس – بولات أي الفولاذ. بذلك يكون المعنى الروح الفولاذية.
الإمراء الجانبولاتيون
يذكر العلامة شرفخانى بدليسي (1) حكام إمراء كلس الجانبولاتيين بالترتيب كما يلي: مند – حبيب بك – قاسم بك – جعفر بك بن جان بولاد بك- حبيب بك بن جان بولاد بك حسين بك بن جان بولاد بك. آخرهم علي بك بن جانبولات بك.
ظهور الجانبولاتيين في التاريخ
يعود تاريخ قدوم الجانبولاتيين بشكل رئيسي إلى سوريا إلى بدايات القرن الحادي عشر الميلادي من مناطق شمال وجنوب كردستان، وينتسبون إلى جدهم مند (منتشا)، وهو من عائلة حكام جولمرك وآميديا (2) وهو الذي قاد قوة كردية إلى الشام ودخل في خدمة الأيوبيين، وقد اقتطع له الأيوبيون أرضاً في منطقة “القصير” في حمص التابعة حينها لأنطاكيا، وقد التف حوله كرد مدن جوم وكلس من المسلمين السنة، ومن الإيزيديين وقد أثبت الأمير “مند” كفاءته وجدارته في خدمة الأيوبيين الذين كافأوه بمنصب ميرى ميران (أمير أمراء) كرد الشام وحلب، وقد استمر في حكمه حتى مجيء المماليك، وقد دخل حينها في صراع مع الإيزيديين ومن بعده وفي عهد العثمانيين دخل الأمير قاسم في صراع شديد مع شيخ عزالدين رئيس الإيزيدية، ولكن فيما بعد عمد والي حلب العثماني قرة جة أحمد باشا إلى التخلص منه وقتله، وأرسل ابنه الصغير جانبولات إلى استنبول ليتلقى التربية العسكرية في السراي السلطاني، وقد ترك ذلك فراغاً سياسياً في إمارتهم لذلك انتقل بذلك منصب أمير الأمراء إلى شيخ عزالدين.
بعد أن كبر جانبولات رجع إلى الإمارة فعاد الحكم من جديد إلى العائلة حيث أسند السلطان سليمان منصب الإمارة في كلس وإعزاز إليه ومنذئذ حملت العائلة اسم جانبولات (3).
الصراع الجانبولاتي – العثماني
لقد حدثت خلافات بين الكرد والدولة العثمانية خلال الاحتلال العثماني لسوريا في مناطق عديدة منها شمال سورية وجبل الكرد بسبب سياسة السلاطين العثمانيين المركزية، فبدأت الخلافات بتمرد الجانبولاتيين (جانبلاطيين) أيام جدهم الكبير “مند” في مدينة كلس بشمال سوريا واستمرت خلال فترة الإمارة، التي دامت من 1230م حتى 1607م عندما انهارت في عهد علي جانبولات.
كان الأمير حسين بن جانبولات في عهد الوالي “جغالة زادة سنان باشا على إيالة حلب من الصدر الأعظم، ولكن الأخير أخذ يضمر الشر له لأنه لم يشاركه الحرب مع الصفويين في إيران، فعندما هُزم في حرب تبريز انتقم منه وقتله.
عندما سمع أخوه علي باشا جانبولات نبأ مقتله، جمع جيشاً في حلب ومناطق سيطرته في القسم الغربي من روج آفا ثم زحف إلى طرابلس وسيطر عليها وأغار على قرى الشام، فعلا شأنه في تلك البقاع، وأسس حكما مستقلا ساعده في تكوين جيش كبير، وقام بسك النقود باسمه، ومنع أموال الميرة عن العثمانيين، تطوع حاكم عكا وبلاد طرابلس يوسف آل سيفا -وهو كردي أيضاً – لقتال علي لكنه هُزم في معركة 24 تموز 1606م، وفرمن دمشق، ليصل عن طريق البحر إلى مدينة حيفا بعد أن دفع للدمشقيين لقاء هربه مبلغ مائة ألف قرش، بذلك النصر لعلي باشا جانبولات ازداد نفوذه وانتشر صيته فعقد في 1607م معاهدة مع الأرشيدوق “فرديناند” ملك توسكانا الإيطالية، كما حاول عقد معاهدات مماثلة مع عدة حكومات، حينها كان فخرالدين المعني الثاني ثائراً على العثمانيين وقد جمع ذلك الاثنان على الثورة ضد العثمانيين لذلك تحالف علي باشا مع فخرالدين المعني في جبل لبنان بوساطة أحد كبار إنكشارية دمشق، وصديق فخر الدين “كيوان الكردي” أراد الاثنان تحرير دمشق فحاصراها. ولكن؛ بعض أعيان دمشق خرجوا للتفاوض مع علي باشا جانبولات فدفع الدمشقيون لعلي باشا مبلغ مائة ألف قرش، وهو المبلغ الذي دفعه يوسف باشا للدمشقيين مقابل تهريبه، وخلاصه من قبضة علي باشا جانبولات، ومن ثم تم الصلح بينه وبين الدمشقيين.
إن سبب تراجع علي باشا عن السيطرة على دمشق علماً أن مسألة دخولها كانت سهلت عليه. كما يقول في ذلك المؤرخ الحسن بن محمد البوريني (4): لا شك أن فتح دمشق ستكون له مضاعفات سياسية في الدولة العثمانية والأهم من ذلك؛ فإن احتلال دمشق سيبعده عن مركز قوته في منطقة كلس وحلب، كما أن حليفه فخر الدين المعني لا يريد لحليفه أن يستلم حكم ولاية الشام لأنه سيكون هو تابعا له بصفته أمير الشوف والبقاع وصفد التي كانت تابعة لولاية الشام.
وضع الصدر الأعظم “قويوجي مراد بك” قائداً على جيش ضخم لمحاربة ابن جانبولات، يضم فيه أربعين ألفاً /جلهم من الكرد/ بقيادة ذوالفقار باشا، حينها كان الجيش الكردي بقيادة علي باشا يتألف من عشرين ألف خيالة ومثله من المشاة، وكان معسكراً في مضيق “بغراس” وهو ينتظر قدوم الجيش العثماني، ولكن القويوجي مراد باشا خشي من الاصطدام والهزيمة مع الجيش الكردي في ذلك الموقع، الذي رآه غير مناسباً لمنازلته، فتوجه إلى مضيق “أرسلان بلي” ثم التقى الجيشان في سهل أورج في 24 تشرين الأول 1607م وكانت نتيجة المعركة هلاك نصف جيش ابن جانبولات، وانسحابه إلى حلب، ولكنه بعد ذلك فقد الثقة بمواجهة العثمانيين وربما سبب ذلك هو رؤيته لقرابة لأربعين ألف “كردي” يحاربون ضده في صفوف الأعداء، لذلك سافر مستسلماً إلى إستنبول، فعفى عنه السلطان أحمد وعينه بكلربك” على إيالة تمشوار (5) وأدخل أخاه الصغير إلى المدرسة السلطانية الخاصة داخل السراي. بعد أن أبعد العائلة الجانبولاتية من حكم إمارة كلس وإسنادها إلى كرد آخرين.
كانت نهاية الأمير علي باشا جانبولات على يد أحد المندسين الذي أرسله القويوجي مراد باشا، الذي غضب من ذلك العفو وأرسل من يقتله غيلة في قلعة بلغراد، عندما كان ذاهباً إلى عمله، وبذلك أسدل الستار على الإمارة الجانبولاتية في غربي روج آفا، بعد أن استمرت قرابة أربعة قرون وكان مصير العائلة الهجرة والفرار من بطش القويوجي إلى لبنان حيث حلفاؤهم المعنيين، الذين يذكرهم العديد من المؤرخين على أنهم كرد أيضاً.
وقد لعب الجانبولاتيون منذئذ دوراً كبيراً في لبنان بدءاً من سعيد ورباح وصولاً إلى وليد جنبلاط رئيس حزب التقدمي الاشتراكي الذي صرح مراراً اعتزازه بكرديته.
المصادر:
1- كتاب شرفنامة الذي ألفه بالفارسية العلامة شرف خان البدليسي وترجمه إلى العربية أ. محمد علي عوني وذلك في موضوع تاريخ سلاطين آل عثمان ومعاصرهم من حكام إيران وتوران في ص224
2- أ. مروان بركات ـجبل الكرد-عفرين عبر العصور- ص122
3- خلاصة تاريخ كرد وكردستان ج2 ص318-319 العلامة محمد أمين ذكي.
4- المؤرخ الحسن بن محمد البوريني في كتابه تراجم الاعيان من أبناء الزمان ج2.
5- خلاصة تاريخ كرد وكردستان العلامة محمد أمين ذكي –ج1-ص178.
