د. طه علي أحمد
من النضال القومي إلى الكونفدرالية الديمقراطية، ومن الدولة إلى المجتمع، ومن الهيمنة الذكورية إلى التحرر الجندري، ظل مفهوم “الحرية” عند المفكر عبد الله أوجلان يتحول ويتجدد. لم يعد يعني التحرر من سلطة قائمة فقط، بل تأسيس علاقات جديدة لا تقوم على السيطرة أصلًا، وفي زمنٍ تتآكل فيه المعاني الكبرى، ويُعاد فيه إنتاج العبودية بأشكال حديثة، قد يبدو المشروع الأوجلاني في الحرية – رغم التحديات – محاولةً جذرية لإعادة التفكير في معنى أن يكون الإنسان حرًا داخل مجتمع حر، لا فوقه ولا خارجه.
في هذا تبدو مهمة تفكيك مفهوم الحرية كما يصورها الطرح الفلسفي الأوجلاني، بمثابة الفريضة الغائبة، فرغم حالة التشتت التي يعيشها العقلُ البشري نتيجة لزحام الحداثة إلا أن التأصيل المفاهيمي لا يزال حجراً أصيلاً لأسس الفهم الإنساني، فالحرية لا يمكن أن تتحقق في الفراغ، بل تحتاج إلى بنية حاضنة، وهذه الحاضنة ليست هي الدولة، كما يقول المفكر أوجلان، إنها المجتمع الأخلاقي والسياسي. إن ذلك يفرض إعادة تعريف السياسة ذاتها باعتبارها “فن تنظيم الحياة الحرة”، مقابل الدولة التي تمثل “سلطة قمع وإخضاع”. وبهذا، تتحول الحرية من مطلب تُقدّمه الدولة إلى ممارسة تنتجها الجماعة.
الأمر الذي يستدعي تفكيك العلاقة بين الدولة والمجتمع، التي تتسم بكونها تقوم على الاستحواذ وفقاً للمنظور الأوجلاني، فالدولة القومية “الحديثة” لم تكن أداة تحرير – رغم مزاعم الحداثيين – بل هي أداة لتجريد للإنسان من بعده المجتمعي. ولهذا، فإن النقد الأوجلاني للحداثة الغربية يتأسس على تحليلها بوصفها نموذجًا لسلطة مركزية تستخدم أدوات القانون والتعليم والإعلام لتطويع الأفراد وسلخهم من مجتمعاتهم العضوية.
قد يبدو هذا الطرح أكثر وضوحاً إذا ما وضعناه في إطارٍ تحليلي مقارن يجمع المفكر عبد الله أوجلان في مواجهة مفكري الحداثة لتتجلى التباينات الجوهرية الناجمة عن اختلافات سياقية وأيديولوجية، لتطال البنية المفاهيمية نفسها. وبطبيعة الحال، تسفر المقارنة عن أربعة مستويات رئيسية تفسر هذه العلاقة هي؛ السلطة، الذات، الدولة، والمجتمع.
بشكلٍ عام، يطغى على التصورات الغربية التي تختزل الحرية في العلاقة القانونية بالدولة، الليبرالية وخاصةً عند جون ستيوارت مل فهم للسلطة بوصفها قيدًا خارجيًا، فيما تُفهم الحرية كمساحة يُفترض أن تبقى خالية من تدخل الدولة أو الجماعة، في حين تتجاوز نظرة القائد أوجلان لهذا النطاق، فالسلطة ليست فقط مؤسسة سياسية، بل هي “نظام ذهني ومعرفي متكامل”، يتغلغل في الثقافة، التربية، اللغة، والجندر. ومن هنا، فإن نقد السلطة لا يقتصر على حدود تدخل الدولة، بل يمتد إلى “تفكيك الذهنية السلطوية” نفسها، وهي الذهنية التي تجعل الأفراد يسلكون طرق التبعية وهم يظنون أنهم أحرار، لاسيما وأن المقاربة الغربية تبقي على جوهر السلطة قائمة حتى حين تتحدث عن حقوق الإنسان، إلا أنها لا تزعزع بنية السلطة نفسها.
فلطالما ظلت الحداثة الغربية في معظمها ترى في الدولة إطارًا ضروريًا لتنظيم الحرية، سواء في شكل الدولة التعاقدية عند روسو، أو الدولة القانونية الليبرالية عند مل، أو حتى الدولة العقلانية التواصلية عند هابرماس. أما المفكر أوجلان فلا يرى في هذا النهج وعاءً للتحرر، فما هي إلا أعلى أشكال الاحتكار السلطوي التي تُنتج العنف باسم السيادة والنظام. غير أنه الطرح الأوجلاني لا يسعى لهدم الدولة بالشكل الذي يروج له من ترهقهم أطروحاته وأفكاره، فما هدم الدولة سوى مسعى لتفكيك ضرورتها الأيديولوجية، من خلال طرح بدائل لا-دولتية، كشبكات المجتمعات الديمقراطية ذات الطابع الكونفدرالي. في هذا النموذج، تُصبح السياسة أداة لتحرير الإنسان من الدولة، لا لتأكيد موقعه فيها. وهو ما يتحقق من خلال المجتمع الأخلاقي والسياسي سالف الذكر، والذي يتشكل عبر التربية المجتمعية، وتنظيم الكومونات، ومشاركة النساء والشباب في القرار، لا عبر انتخابات شكلية أو مؤسسات استهلاكية. وبذلك، يصبح المجتمع هو الحقل الأول للحرية، والسياسة لا تبدأ في البرلمان، بل في الشارع، وفي القرية وفي الميدان، إنها تتخلل حتى علاقات الجوار وفي المجال الطبيعي. والحرية بهذا المعنى تنطوي على تحول في الذهنية قبل أن تكون تغييراً في البنية، الأمر الذي يفرض على شعوب الشرق الأوسط ثورة ذهنية على المنظومة التي تُعيد إنتاج الهيمنة، مثل الذكورية، الرأسمالية، والمركزية القومية.
من هذا المنظور، لا يكفي تفكيك السلطة المادية، بل يجب تفكيك “الذهنية السلطوية” المزروعة في الأفراد أنفسهم، وهذا يقود إلى أن الحرية ليست حالة تُمنح من الخارج، بل فعلًا داخليًا ومجتمعيًا يتطلب نقدًا مستمرًا للذات، وإعادة بناء للمعنى. هنا يقدم الطرح الأوجلاني بديلاً في الحداثة الديمقراطية التي تضع بجانب المجتمع الأخلاقي، تفكيك الحداثة الرأسمالية واستعادة “المجتمع الطبيعي” اقتصاداً، اجتماعياً، بيئياً، وتعددية ثقافية وقومية لا دولتية.
بجانب ذلك، لا تغيب المرأة عن الفهم الأوجلاني للحرية، بل تتوسطها لا كفئة مهمشة فقط، بل بوصفها رمزًا لتحطيم الذهنية السلطوية الذكورية التي أسست لكل أنماط القمع. مما سبق، تبدأ الحرية فكراً وممارسة بثورة جوهرية تقودها المرأة كشرط لتحرر المجتمع بأكمله.