د. طه علي أحمد
في ظل تعقيد الأزمات السياسية والاجتماعية والبيئية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، برزت رؤية المفكر “عبد الله أوجلان” حول “المجتمع الأيكولوجي” كطرحٍ فلسفيٍ واجتماعيٍ يسعى لإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبين الفرد والمجتمع، ضمن إطارٍ يتجاوز مفاهيم الدولة القومية والرأسمالية التقليدية. هذه الرؤية لا تقتصر على معالجة الأزمات البيئية، بل تتداخل مع الحلول السياسية والاجتماعية، مقدمة نموذجًا بديلاً لتجاوز الأزمات البنيوية في المنطقة.
ينطلق القائد “عبد الله أوجلان” في تصوره للمجتمع الأيكولوجي، من نقدٍ عَميقٍ للحداثةِ الرأسمالية التي يرى أنها أدت إلى قطيعة بين الإنسان والبيئة، وأسَّست لنموذجٍ اقتصادي يقوم على الاستغلال المُفرط للموارد الطبيعية؛ ما ساهم في تعميق الأزمات البيئية والاجتماعية معًا.
والمجتمع الأيكولوجي في هذا الإطار يمثل نموذجاً بديلاً يعيد التوازن بين الإنسان والطبيعة، من خلال اقتصاد تشاركي يعتمد على الزراعة المستدامة، والطاقات المتجددة، وإدارة الموارد بشكل تعاوني ومحلي. هذا النموذج ليس إطاراً بيئياً، بل هو مشروعٌ اجتماعيٌ وسياسي ينطلق من فلسفة الحرية والمساواة، ويهدف إلى إعادة بناء المجتمعات على أسس ديمقراطية تشاركية، ترفض المركزية والتسلط.
ويتزامن ذلك مع مُركب معقد من الأزمات التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط التي يتوسطها سِلسال الحروب والنزاعات العرقية والطائفية في المنطقة، ولا تنتهي عند التدهور البيئي واستنزاف الموارد، والتصحر، وندرة المياه، والتغير المناخي وكلها عوامل عمّقت هشاشة المجتمعات، وفاقمت حدّة الصراعات. وفي هذا السياق، تبرز فكرة المجتمع الأيكولوجي محاولة لإعادة صياغة العلاقة مع الأرض بوصفها ركيزة لحل الأزمات الاجتماعية والسياسية، فعلى سبيل المثال، لا تعد أزمات المياه في سوريا والعراق مجرد مسألة بيئية، بل هي عنصر تفجير للصراعات بين المكونات الاجتماعية والدول الإقليمية، وهو ما يعزز أطروحة القائد “عبد الله أوجلان”، بأن الحلول البيئية يجب أن تكون جزءًا من الحلول السياسية.
هنا يرتبط المجتمع الأيكولوجي ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الكونفدرالية الديمقراطية الذي يطرحه المفكر عبد الله أوجلان كنموذجٍ سياسي بديل، حيث تقوم المجتمعات المحلية بإدارة شؤونها ذاتيًا ضمن إطار تعاوني يتجاوز الدولة القومية. وفي هذا السياق، يصبح المجتمع الأيكولوجي بمثابة القاعدة الاقتصادية والاجتماعية لهذا النموذج، إذ يعتمد على اقتصاد تعاوني محلي يدعم الاكتفاء الذاتي ويقلل الاعتماد على المركزية الاقتصادية التي تغذي النزاعات. ويمثل النموذج القائم في روج آفا سوريا مثالاً واقعياً على هذا التكامل، حيث تشكَّلت مجتمعات محلية تدير الزراعة والموارد البيئية بشكل تعاوني ضمن نظام سياسي لا مركزي.
غير أن هذا الطرح النابع من عقلٍ يضع البيئة في محور اهتمام لا يخلو من التحديات التي تواجهه عند التطبيق، فما بين الأنظمة السلطوية التي ترى في اللامركزية والاقتصاد التعاوني تهديداً مباشرا لسلطتها السياسية، والرأسمالية العالمية التي تعتمد على استغلال الموارد في الشرق الأوسط وغيره من دول العالم الخاضعة للاستغلال الرأسمالي من أجل تغذية مراكز القوة في الغرب، وصولاً إلى النزاعات المسلحة التي تدمر البنى التحتية وتعيق أي محاولات لبناء مجتمعات مستقرة وواعية بيئياً. إضافة إلى ذلك، تفتقر العديد من المجتمعات في المنطقة إلى الاستقرار الأمني والسياسي؛ ما يجعل تطبيق نموذجٍ تعاوني بيئي أمراً صعباً دون بيئة داعمة إقليمياً ودوليًا.
فالتحديات المذكورة وغيرها، تفرض على العقل الجمعي لشعوب الشرق الأوسط فريضة واجبة تتمثل في إعادة الانفتاح على المجتمع الأيكولوجي كمسارٍ للتفكير في حلول أزمات المنطقة بشكلٍ لا يقتصر على الحلول العسكرية أو السياسية التقليدية، بل تتجه نحو إعادة بناء العلاقة بين الإنسان وأرضه ومجتمعه، وبشكل عام، يقدم هذا النموذج إطاراً لفهمٍ أعمق لجذور المشاكل التي يعيشها الشرق الأوسط، لأنه يركز على بناء مجتمعات مستقلة اقتصادياً، متحررة من الهيمنة السلطوية ومنسجمة مع بيئتها.
وهنا يثار التساؤل الأهم، هل تملك المجتمعات المحلية القدرة على تجاوز إرث الدولة القومية والرأسمالية لصياغة عقدٍ اجتماعي جديد يرتكز على الإيكولوجيا والديمقراطية التشاركية؟ الإجابة على هذا التساؤل تثير إشكاليَة أعمق تتمثل بمدى توفر القدرات الكامنة للمجتمعات المحلية على توفير نماذج تتجاوز الأطر التقليدية بما يواكب التحديات الهائلة التي تلقي بظلالها على مستقبل العمران البشري من المنظور الأيكولوجي، فضلا عن قدرة المجتمعات المحلية على مواجهة القيود والضغوط المفروضة ومدى الوعي السياسي والبيئي المطلوب، فضلا عن التضامن الإقليمي والعالمي.
وبعبارة أخرى، فإن الأمرَ قد يبدو صعبًا أن تتجاوز شعوب الشرق الأوسط تأثير هذه القيود والضغوط الخانقة، إلا أنه لا يبدو مستحيلاً شريطة توافر الوعي والانفتاح على الطرح الأيكولوجي الذي يقدمه القائد “عبد الله أوجلان” كنموذج أصيل ينبع من عمق البيئة المحلية للشرق الأوسط.