أفيندار مصطفى
شكّلت مجازر الساحل الأخيرة تطوراً خطيراً فاقم من تهديد السلم الأهلي في سوريا، إذ تحقق جانب كبير من المخاوف التي رافقت احتمال سقوط نظام الأسد، واشتملت على احتمالات حدوث انتقامات عشوائية تطال الأبرياء والمدنيين، ما قد يدفع البلاد المثخنة بجراح حرب طويلة إلى منزلق الفوضى والدماء من جديد. فمع وقوع هذه المجازر، واحتمالية عدم الجدية في محاسبة مرتكبيها، قد يغدو التحريض الطائفي أحد عناوين مرحلة ما بعد سقوط النظام.
ويبدو أن هذا التحريض ما زال يتجسد على مستويات عدة، من إعادة إنتاج الصور النمطية التي شكلتها فئات من السوريين تجاه فئات أخرى خلال مدد زمنية طويلة، مروراً بتصاعد خطاب الكراهية أثناء النزاع، وانتهاءً بأشد أصناف الكراهية قسوةً وأكثرها خطورة، وهي الدعوات الصريحة للقتل والإبادة، وقد ساهمت هذه الدعوات بشكلٍ مباشر في وقوع أعمال قتل ممنهجة على أساس طائفي في مناطق سوريّة عديدة، منها مجازر الساحل في آذار الماضي.
الدروز بين العزلة والاستهداف
منذ اندلاع النزاع السوري، وجدت الطائفة الدرزية نفسها في موقع بالغ الحساسية، بين مطرقة النظام وسندان المجموعات المتطرفة. استخدم النظام الدروز كورقةٍ ضمن معادلة “حماية الشعوب”، بينما جرى استهدافهم بشكلٍ مباشر من جماعات متشددة لا تعترف بتنوع المجتمع السوري. واليوم، يزداد المشهد تعقيداً مع دخول إسرائيل على الخط، متذرعةً بـ”حماية الدروز”، في تكرار لنمط تدخّلها في الجولان ولبنان، ما يضع المجتمع الدرزي أمام خطر استغلاله ضمن أجندات إقليمية قد لا تخدم مصالحه على المدى البعيد.
وقد عانت مناطق درزية مثل السويداء من حصار اقتصادي، وغياب تام للدولة، مقابل تفكك الأطر المجتمعية وانتشار فوضى السلاح، مع ازدياد عمليات الاغتيال والخطف والترويع، هذا التآكل الأمني والاجتماعي لا يمكن فصله عن تجاهل ممنهج لمطالب السكان، وفشل مركب في تقديم نموذج بديل يضمن كرامتهم وأمنهم.
بين الأكثرية والأقلية.. مأزق الهوية الوطنية
لطالما استُخدمت سردية “الأكثرية المظلومة” مقابل “الأقلية المحمية” لتكريس الانقسام الطائفي، سواء في خطاب النظام أو في خطاب المعارضة. تحوّلت الهوية السورية إلى كيانٍ مجزأ تُعرّف فيه الجماعات لا باعتبارها مواطنين، بل كطوائفٍ متناحرة، هكذا جرى تجريد السوري من فردانيته، وتحويله إلى ممثل عن “طائفة” يُحاسب ويُقاتل ويُدان على أساسها.
وبينما استثمر النظام في تخويف الشعوب، لجأت أطراف مما تسمى بالمعارضة إلى الاستثمار في نزعة الغالبية، ما أدى إلى تصاعد الخطاب الطائفي وتآكل مفهوم المواطنة الجامعة، هذا الشقاق البنيوي لا يهدد وحدة البلاد فقط، بل يعمّق من قابلية المجتمع السوري للتفكك والانقسام على أسس قاتلة.
سوريا ساحة صراع إقليمي.. إسرائيل وتركيا على خط النار
في خضم هذا التمزق الداخلي، تحوّلت سوريا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي مفتوح. تتصاعد اليوم مؤشرات ما يمكن تسميته بـ “الحرب الإسرائيلية التركية بالوكالة” على الأرض السوريّة. إسرائيل تكثف غاراتها على مواقع عسكرية تقول إنها تابعة لإيران أو حزب الله، لكنها في واقع الأمر تُعيد تشكيل خرائط النفوذ في الجنوب. تركيا من جهتها، تمارس سياسة توسعية في الشمال، تحت ذريعة حماية أمنها القومي، بينما تستهدف مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، في حرب موازية، تارةً عسكرية وتارةً ديمغرافية.
هذان التدخلان، المتضادان في الشكل، المتكاملان في المضمون، يعيدان صياغة الخريطة السوريّة وفق مقاييس لا علاقة لها بإرادة السوريين، بل بمصالح أمنية واستراتيجية للدول المتدخلة. وفي كل مرة، يكون المدني السوري هو الضحية.
وسائل التواصل.. منبر مفتوح للكراهية
لم تعد وسائل التواصل مجرد منصات تواصل، بل تحوّلت إلى ساحة معركة طائفية وإيديولوجية مفتوحة. جرى توظيفها في نشر خطاب الكراهية، والتحريض، وترويج دعوات الإبادة، وتكريس الصور النمطية، في غياب أي تنظيم قانوني أو وازع أخلاقي. باتت “البوستات” والـ”تغريدات” أدوات تعبئة خطيرة، تُجهز على ما تبقى من عقلانية في النقاش العام.
إعادة تعريف الوطن أم إعادة إنتاج الكارثة؟
في ظل ما نعيشه من انهيار اقتصادي، وتفتت جغرافي، وتذرر طائفي، وتدخّلات خارجية، تبدو سوريا أمام مفترق طرق خطير، إما المضي نحو عقد اجتماعي مدني جديد يعيد الاعتبار للمواطنة ويكسر معادلة الأكثرية والأقلية، أو إعادة إنتاج كارثة ستكون أكثر دموية وتفكيكاً من سابقتها.
المطلوب اليوم ليس فقط تفكيك خطاب الإبادة، بل تفكيك البنية التي تنتجه وتعيد إنتاجه: مناهج التعليم، الإعلام الرسمي والخاص، الخطاب السياسي والديني، ومراكز القوى التقليدية. وحدها إعادة الاعتبار للإنسان السوري كفردٍ حر، وليس كجندي في جيش طائفته، قادرة على إيقاف الفم عن الضغط على الزناد.