فاتن أزدحمد
في قلب “مخيم برج البراجنة”، على زقاق صغير تملأه رائحة الزعتر والدخان، كان يقف فرن الحاج “خضر قاسم أبو إبراهيم” شامخًا، لا بجدرانه، بل بروحه التي جمعت نساء المخيم وأطفاله والذكريات.
لم يكن مجرد فرن… كان “مزارًا يوميًّا” للنساء اللواتي كنّ يحملن عجينهن كل صباح، مغطّى بالقماش المطرّز، ويسرن بخطوات تحمل الفقر على الظهر، لكن “بابتساماتٍ تشبه الأغاني القديمة”.
في الفرن، كانت الصواني تنتظر دورها في الحطب، وتنتظر النسوة أن تُخبز كما تُخبز القصص بينهن. وكانت أم خليل تحكي عن زمن اللجوء الأول، وأم سامر تضحك بصوتها العالي لتغطي على وجعها، بينما أم محمد ترق العجين بحب وتوصي على “شوية نار زيادة منشان الحواف”. وكان الحاج خضر، بعباءته البنية، يسير بينهن كأنه “حارس الحنين”، يطمئن على الجميع، يفتح الفرن وكأنّه يفتح القلب. وكان يعرف كل رغيف، وكل صينية، وكل دعاء كانت تهمس به النساء وهن يخبزن.
وفي اليوم العالمي للعمال، لم يكن هناك احتفال رسمي، لكن كان الفرن يحتفل بطريقته “كل امرأة تأخذ رغيفًا إضافيًا، كل طفل يُعطى “لقمة سخنة”، وكل عرق جبين يُقابل بابتسامة من أبو إبراهيم”.
وكان الخبز رمز الكرامة، والفرن مساحة الأمان، ومساءات الحارة تتحوّل إلى حفلات صغيرة من القصص، والشاي، والضوء الخافت المنبعث من جمر الفرن. واليوم لم يعد هناك فرن “أبو إبراهيم”، وربما بعض النساء رحلت، وبعض الأطفال كبروا. لكن؛ رائحة الخبز ما زالت تعلّمنا معنى العمل الشريف، والتضامن، والكرامة، تمامًا كما علّمتنا أفران الطين القديمة وأيدي الأمهات الصابرات.