محمد عيسى
بدأت الحكومة الانتقاليّة الجديدة برئاسة أحمد الشرع ووزير الخارجيّة أسعد الشيباني إعادة رسم ملامح السياسة الخارجيّة لسوريا. من الرياض إلى باريس، مروراً بالدوحة وعمّان وأنقرة، فتعمل سلطة دمشق الجديدة على تثبيتِ حضورها الإقليميّ والدوليّ، في مسعى لتحقيق اختراقات في جدار العزلة الذي فُرض عليها طيلة سنوات الحرب وسط شبكةٍ معقدةٍ من المصالح المتناقضة والتحديات المتعددة.
انطلاقة دبلوماسيّة
عند الساعة السابعة من مساء الأربعاء الأول من كانون الثاني 2025، هبطت طائرة الوفد السوريّ الجديد في مطار الملك خالد الدوليّ في الرياض. لم تكن مجرد زيارة عادية، بل كانت لحظةً توثّق بداية مرحلة جديدة في التاريخ السياسيّ السوريّ؛ مرحلة ما بعد الأسد. ومنذ تلك اللحظة، بدأت خارطة دبلوماسيّة سوريا تتشكل مجدداً، بخطوات مدروسة، زيارات محسوبة، وتصريحاتٍ تتحدث بلغة مختلفة كلياً عن خطابات السنوات السوداء التي طبعت عهد الأسد.
وبينما كانت شاشات الأخبار تنقل لحظة هبوط الطائرة السوريّة في مطار الملك خالد الدوليّ بالرياض، دوّت في أروقة السياسة العربيّة إشارة واضحة: الحقبة الجديدة في سوريا قد بدأت، وها هي المملكة العربيّة السعوديّة تبادر لتكون أول العواصم التي تعترف بالأمر الواقع الجديد في دمشق. لم تكن زيارة وزير الخارجيّة السوريّ الجديد أسعد الشيباني إلى الرياض مجرد خطوة بروتوكوليّة عابرة، بل كانت إطلاق صافرة البداية لتحركاتٍ دبلوماسيّةٍ تسعى لصياغة صورة سوريا ما بعد الأسد. وبرفقة وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة أنس خطاب، وحمل الشيباني ملفات حساسة إلى الديوان الملكيّ السعوديّ، حيث التقى نظيره فيصل بن فرحان في جلسات مغلقة وصفتها مصادر دبلوماسيّة بـ “الاستكشافيّة والرمزيّة في آنٍ معاً”. لقد عكست الزيارة، التي جرت في مستهل العام الجديد، قبولاً سعوديّاً مبكراً بالحكومة السوريّة الجديدة، كما دلّت على رغبة المملكة في طي صفحة التحالفاتِ القديمةِ التي امتدت لسنواتٍ من النزاع والتنافر. وفي تغريدة مقتضبة نشرها الشيباني عبر منصة “إكس”، قال: “من خلال هذه الزيارة الأولى في تاريخ سوريا الحرة، نطمح إلى أن نفتح صفحة جديدة ومشرقة في العلاقات السوريّة السعوديّة”. تلك الكلمات، رغم بساطتها، كانت إعلاناً رسمياً عن طبيعة المرحلة القادمة: شراكات مبنية على المصالح المشتركة، ومواقف تنبع من واقعية سياسيّة لا تعترف بالأوهام القديمة.
ولم تمضِ سوى أربعة أيام على هذه الزيارة حتى حط الوفد السوريّ رحاله في الدوحة، في الخامس من كانون الثاني، لتكون المحطة الثانية في جولة الشيباني الإقليميّة. العاصمة القطريّة، التي طالما كانت لاعباً رئيسياً في الملف السوريّ، استقبلت الشيباني ومعاونيه بكثير من الحذر المشوب بالبراغماتيّة. فقد كانت هذه الزيارة اختباراً فعلياً لمدى تقبّل الدوحة للتغيّرات في دمشق، ومدى استعدادها للتفاعل مع سوريا الجديدة بعيداً عن أعباء السنوات السابقة. وخلافاً للزيارات البروتوكولية، دارت النقاشات في الدوحة حول قضايا جوهرية تتعلق بإعادة بناء المؤسسات، واستعادة فعاليّة الدولة السوريّة على الأرض، وإمكانات التعاون في الملفات الإنسانيّة والاقتصاديّة، وحتى الأمنيّة.
مصادر دبلوماسيّة مطلعة أشارت إلى أنّ الاجتماعاتِ لم تخلُ من حديثٍ صريحٍ عن ملفاتِ التنسيق العسكريّ، وسُبل إدارة المرحلة الانتقاليّة بما يضمن استقرار سوريا أولاً، ثم إعادة اندماجها تدريجياً في محيطها العربيّ. بدا واضحاً أن قطر، رغم تحفظاتها، قررت فتح قنوات التواصل الجدي، مدفوعة بقراءة جديدة للواقع السوريّ، وربما بوعيٍ ناتجٍ عن تراكماتِ التجربةِ خلال العقد الماضي. وهكذا، خلال أقل من أسبوع، أرسى الشيباني خطوتين متتاليتين على طريقِ تثبيتِ صورة حكومته كفاعلٍ سياسيّ جادٍ يسعى لبناءِ تحالفات لا تعتمد على السلاحِ أو الشعارات، بل على المصالح والدبلوماسيّة.
مصالح دوليّة مختلفة
في السابع من كانون الثاني 2025، حطّ الوفد السوريّ رحاله في العاصمة الأردنيّة عمّان، واستُقبله وزير الخارجيّة الأردنيّ أيمن الصفدي، في زيارة عكست إدراكاً أردنيّاً متقدماً بضرورة الانخراط المبكر مع الحكومة السوريّة الجديدة، ليس فقط من بوابةِ المجاملاتِ الدبلوماسيّةِ، بل من بوابة التحديات الأمنيّة الفعلية. وخلال المؤتمر الصحفيّ المشترك، لم يتوانَ الصفدي عن طرحِ واحدةٍ من أكثر القضايا حساسيّةً في علاقات الأردن مع دمشق، قائلاً بلهجةٍ حازمةٍ: “سنواجه تحدّي المخدراتِ المستمر في سوريا بالتعاونِ مع السلطة الجديدة”. بهذه العبارة، اختصر الصفدي حجمَ القلق الأردنيّ من شبكاتِ التهريب التي تفاقمت خلال السنوات الماضية، مستغلةً انهيارَ الدولة السوريّة وتفكك مؤسساتها الأمنيّة.
من جانبه، بدا وزير الخارجيّة السوريّ أسعد الشيباني أكثر استعداداً للخوضِ في الملفات الشائكة، خصوصاً ما يتعلّق منها بالجنوب السوريّ، وهي المنطقة التي لطالما كانت ساحةَ توترٍ إقليميّ بسبب تدفقِ المخدراتِ والسلاحِ منها باتجاه الحدودِ الأردنيّة. لقد أرادت عمّان، من خلال هذه الزيارة، أن تختبرَ جدّيةَ السلطة السوريّةِ الجديدة في ضبط حدودها، وهو ما تعامل معه الشيباني بنبرةٍ توحي برغبةٍ في إثباتِ المسؤوليّةِ والسيطرةِ، حتى وإن كان الواقع على الأرض أكثر تعقيداً مما تظهره الصور الرسميّة.
ولكن، وبعد أقل من أسبوع، وتحديداً في الخامس عشر من كانون الثاني، وجدتِ سلطة دمشق نفسها أمام محطة أكثر تعقيداً وحساسيّةً: العاصمة التركيّة أنقرة. وهناك، استقبل الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان الوفدَ السوريّ المؤلف من الشيباني ومرهف أبو قصرة وأنس خطاب، في لقاءٍ مغلقٍ جرى داخل المجمع الرئاسيّ، بحضور وزير الخارجيّة التركيّ هاكان فيدان. وبرغم الصمت الرسميَ الذي لفّ تفاصيلَ اللقاء، فإنَّ ما تسرّب من وسائلِ الإعلام التركيّة أشار إلى أنّ المحادثات تطرقت إلى “ملفاتٍ أمنيّةٍ شائكةٍ”، بما في ذلك مستقبلِ المجموعات المسلحة في الشمال السوريّ، وقضية اللاجئين، وإمكانيّة التعاون الاستخباراتي بين الجانبين.
غير أن هذه الزيارة، التي وصفتها مصادر دبلوماسيّة بأنها “مفاجئة وغير تقليدية”، أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط السياسيّة السوريّة والعربيّة، إذ بدا واضحاً أن أنقرة تحاولُ استباقَ أيّ توافق عربيّ سوريّ شاملٍ، عبر مدِّ جسور مباشرة مع السلطة الجديدة في دمشق، لكنها تفعل ذلك من موقع الوصاية والمراوغة، لا من بابِ الاعتراف المتبادل. فتركيا التي لعبت دوراً سلبيّاً طوال سنوات الأزمة، عبر احتضانها لمجموعات مسلحة وتنفيذها تدخلاتٍ عسكريّة متكررة في الشمال السوريّ، بدت اليوم وكأنها تحاول إعادة التموضع، ليس حرصاً على وحدة سوريا، بل بهدف حماية مصالحها الحدودية، وتثبيت نفوذها العسكريّ في مناطق خفض التصعيد. وهكذا، بين عَمان وأنقرة، تمايزت الزيارات واختلفت النوايا. ففي حين سعت الأردن إلى تأمين حدودها عبر تفاهمات حقيقية، حاولت تركيا الاستثمار في الوضع الانتقاليّ السوريّ لإعادة ترتيب أوراقها، لكن دون أن تُظهر أي استعداد فعلي للانسحابِ من الأراضي السوريّة التي تحتلها. كانت الزيارة إلى أنقرة بمثابة امتحان مزدوج للشيباني ووفده: اختبار للمرونة السياسيّة، ولكن أيضاً اختبار للثبات على المبادئ الوطنيّة، في وجه دولة لا تزال تُراكم نفوذها على حساب السيادة السوريّة.
احتضان عربيّ وطموح تركيّ ملتبس
في الثاني من شباط 2025، كانت الرياض على موعد جديد مع الملف السوريّ، لكن هذه المرة بحضور غير تقليديّ: الرئيس السوريّ الانتقاليّ أحمد الشرع، في أول زيارة خارجيّة له منذ توليه مهام الرئاسة. اللقاء الذي جمعه بولي العهد السعوديّ محمد بن سلمان اتسم بطابع رئاسيّ رفيع، تجاوز المجاملات السياسيّة نحو تفاهماتٍ استراتيجيّةٍ فعليّةٍ. تحدّث الشرع عن شراكة ناشئة تهدف إلى “دعم الاستقرار، وتحسين الواقع الاقتصاديّ، وتثبيت مؤسسات الدولة”، ما دلّ بوضوحٍ على رغبةٍ سعوديّةٍ في مأسسة العلاقةِ مع السلطة السوريّةِ الجديدةِ على أسسٍ طويلة الأمد، بعيداً عن الحسابات الضيقة التي ميّزت المواقف الإقليميّة طيلةَ العقد الماضي.
لكن تلك الأجواء التي حملت معها نَفَساً من الانفتاح العربيّ، لم تلبث أن واجهت ارتجاجاً واضحاً بعد يومين فقط، وتحديداً في الرابع من شباط، حين حطّت طائرة الشرع في أنقرة، استجابةً لدعوةِ من الرئيس التركيّ أردوغان. الزيارة، التي تعد الأولى لرئيس سوريّ إلى تركيا منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، تمت وسط ظروف إقليميّة متوترة، وسرعان ما تحوّلت إلى محطةٍ جدليّةٍ بعد تسريب معلومات عن محادثات ذات طابع عسكريّ. ونقلت وكالة “رويترز” عن مصادر إقليميّةٍ متعددة، أنّ اللقاء تضمن نقاشات حول اتفاق دفاعيّ مشترك، يشمل إنشاء قواعد جويّة تركيّة في وسط سوريا، وتدريب تركيا لقواتِ الجيش السوريّ الجديد، في خطوةٍ إن تحققت، فستكون بمثابة إعادة رسم لخريطةِ النفوذِ العسكريّ داخل سوريا.
وهنا، ظهر الوجه الآخر لتركيا. فبينما تسعى دول عربيّة إلى مرافقة سوريا نحو استقرار سياسيّ واقتصاديّ، كانت أنقرة تتحرك بخفة وتكتيك، لمحاولة الهيمنة على المرحلة الانتقاليّة من بوابة الأمن والدفاع. لم تُخفِ أنقرة رغبتها في ضمان نفوذ دائم داخل الأراضي السوريّة، لا سيما في مناطق الوسط والشمال، مستخدمة لغة التعاون العسكريّ كغطاء لنوايا توسعية تتعارض مع فكرة السيادة الوطنية. لقد بدت تركيا في هذه المرحلة كطرف لا يراهن على نجاح سوريا الجديدة بقدر ما يراهن على إعادة تموضعها داخل الخارطة السوريّة، في ظل فراغ إقليميّ نسبي.
وبين الرياض وأنقرة، ظهر الشرع كمن يقف على مفترق مسارين: مسارٌ عربيّ يتجه نحو دعمِ الدولةِ السوريّةِ على قاعدةِ الاستقلالِ والسيادةِ، ومسارٌ تركيّ يحاولُ تجيير المرحلةِ الانتقاليِّة لصالحِ ترتيباتٍ أمنيّة تؤمّن لأنقرة موطئ قدم دائم داخل البلاد. وكانتِ الزيارةُ إلى تركيا اختباراً خفياً لا لشرعيّةِ القيادةِ الجديدة فحسب، بل أيضاً لقدرتها على مقاومةِ مشاريع الإلحاقِ الإقليميّ، خصوصاً حين تأتي متخفية بلبوسِ التعاونِ.
مؤتمرُ باريس تجمّعُ الفرقاءِ
في الثالث عشر من شباط 2025، شكّلت العاصمة الفرنسيّة باريس المحطة الأبرز – وربما الأكثر رمزيّةً – في جولة وزير الخارجيّة السوريّ أسعد الشيباني، والتي وثّقنا مراحلها في هذا التقرير. مؤتمر باريس، الذي جمع ممثلين عن أكثر من عشرين دولة، لم يكن مجرّد لقاءٍ دبلوماسيّ، بل مساحةً نادرة لإعادة تعريف سوريا الجديدة على الخارطة السياسيّة الدوليّة، بعيداً عن الوصاية والاصطفاف، وباتجاه شراكات مبنية على أسس واضحة للانتقال السياسيّ.
ورغم الحضورِ الوازنِ لعددٍ من الدولِ العربيّة والغربية، مثل السعوديّة ولبنان وبعض القوى الأوروبيّة، فقد شكّل الغيابُ الأمريكيّ على المستوى الرفيع علامة فارقةً في المشهد. فوفدُ الولايات المتحدة اقتصر على شخصيات من المستوى التقنيّ، دون مشاركةِ أيّ مسؤولٍ سياسيّ بارز، ما اعتُبر دلالةً على ترددِ واشنطن أو تحفظها حيال الحكومةَ السوريّة الجديدة، وتركها مساحة أكبر لحلفائها في المنطقة لإدارة المرحلة الانتقاليّة. هذا الغياب لم يكن تفصيلاً بروتوكوليّاً، بل مؤشراً على حسابات لم تُحسم بعد في السياسة الأمريكيّة تجاه سوريا ما بعد الأسد.
وعلى طاولةِ المؤتمر، نُوقشت ملفاتٌ جوهريّةٌ تتعلقُ بإعادةِ الإعمارِ، والعدالة الانتقاليّة، وحمايةُ المؤسساتِ من الانهيار، فيما طُرحت تحذيراتٌ من “دوامةِ الانتقامِ” التي أشار إليها أحد مسؤولي الأمم المتحدة خلال الجلسة الافتتاحيّة.
وبينما لا تزالُ الحساباتُ الدوليّة متشابكةً، بدا أنّ مؤتمر باريس قد أشار بوضوحٍ إلى أنّ الملفَ السوريّ دخل مرحلةً جديدةً أكثر تعقيداً من ذي قبل، وأنّ ما جرى خلال الشهور الماضية لم يكن سوى تمهيدٍ أوليّ. وبحسب البيان الختاميّ، تعهدت 20 دولة ببذل أقصى جهد لمساعدة الحكومة الجديدة في دمشق، وتأمين استقرارِ المرحلةِ الانتقاليّةِ، في ظل التوترات المتزايدة في الإقليم.
سوريا الخارجة من نفقِ الاستبدادِ الطويلِ لا تزال تواجه مزيجاً دقيقاً من التحديات الداخليّة والطموحات الخارجيّة. وإن كانتِ العواصم قد فتحت أبوابها للوفودِ السوريّة تباعاً، فإن ما ينتظر دمشق في المراحل القادمة لا يُقاسُ بالكلماتِ التي قيلت على منابر المؤتمرات، بل بقدرتها على إثبات أنّها عادت كدولةٍ، لا ملفٍ على طاولةِ الصفقاتِ الدوليّة.