روناهي/ دير الزور ـ رحلة إبداع ورثت من والدتها وجدتها، لتجسد “قطنة العواد” من خلال حرفتها شاهداً على إبداع المرأة ومهارتها في تحويل الموارد الطبيعية إلى منتجاتٍ فنيةٍ وعملية، لتُحافظ على إرثٍ عريقٍ يُقاومُ الاندثار.
تُشكل الأعمال المهنية التقليدية للنساء نسيجاً حيوياً في الثقافات المُتنوعة حول العالم، حيثُ تُمثل شاهداً على إبداع المرأة ومهارتها في تحويل الموارد الطبيعية إلى منتجاتٍ فنيةٍ وعملية. تمتد هذه الحرف عبر الأجيال، حاملةً معها تراثاً ثقافياً غنياً ومعارفَ متوارثة، تُسهم في صون الهوية الثقافية للمجتمعات. لعبت المرأة دوراً محورياً في تطوير هذه الحرف وتناقلها عبر الزمن، مُوظفةً إبداعها وذوقها الفني في ابتكار تصاميم فريدة تُعكس البيئة المحلية وتقاليدها العريقة.
من النسج والتطريز إلى صناعة الفخار والخزف، تُجسد هذه الحرف براعة المرأة في استخدام مواد بسيطة، كالألياف النباتية، والطين، والخشب، لتحويلها إلى أعمالٍ فنيةٍ مُذهلة. تُضفي هذه الأعمال لمسةً جماليةً على الحياة اليومية، وتُعزز من قيمة المنتجات المحلية، مُساهمةً في تنمية الاقتصاد المحلي وتمكين المرأة اقتصادياً. على ضفاف نهر الفرات، حيثُ تُشرق الشمس لتُلقي بظلالها الذهبية على مياه النهر، تجد “قطنة العواد”، أحد نساء بلدة هجين في ريف دير الزور، تُجسدُ صمودَ المرأة الريفية وقدرتها على التكيف مع ظروف الحياة القاسية. قطنة، كغيرها من نساء المنطقة، تُمارس مهنةً تقليديةً مُرهقةً، لكنها تُشكل مصدر رزقها الوحيد: صناعة الأدوات من قصب الزل.
ورثت قطنة هذه الحرفة عن والدتها وجدتها، جيلاً بعد جيل، لتُحافظ على إرثٍ عريقٍ يُقاومُ الاندثار. تبدأ رحلة عمل قطنة يومياً بعبور نهر الفرات للوصول إلى حقول قصب الزل، حيثُ تقوم بقطفه يدوياً. ثم تُباشر عملية الغزل الشاقة، مستخدمةً خيوطاً خاصةً لتحويل القصب إلى قطعٍ فنيةٍ تُستخدم في صناعة الأسوار التقليدية.
تُدرك قطنة جيداً صعوبة هذه المهنة ومتاعبها، لكنها تُصر على مُمارستها لتوفير لقمة العيش لعائلتها. وتقول قطنة: “هذه المهنة تُمثل مصدر رزقي الوحيد، ورغم صعوبتها، إلا أنني أجد فيها متعةً وراحةً نفسية”.
ولا تُعاني قطنة وحدها من هذه المشقة، فالكثير من نساء المنطقة يشاركنها المهنة نفسها، ويتعاونَّ معاً في جمع قصب الزل ونقله إلى منازلهن. وأشارت قطنة إلى أنَّ تكاليف هذه الصناعة أصبحت باهظةً، حيثُ تتطلب نقل القصب من ضفاف النهر إلى المنازل بواسطة سيارات، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الخيوط وأجور العمال.
يُباع المتر الواحد من قصب الزل، بعد غزله، بسعر 20 ألف ليرة سورية، ويُستخدم في صناعة أسوارٍ تُزيّن المنازل وتُوفر الظل والتهوية الطبيعية، بديلاً عن الجدران الإسمنتية.
تُمثل قصة “قطنة العواد” مثالاً يُحتذى به على صمود المرأة السورية وقدرتها على التكيف مع الظروف الصعبة. وتُسلط قصتها الضوء على أهمية دعم الحرف التقليدية وحماية التراث الثقافي في المناطق الريفية. ففي كلِّ قطعةٍ من قصب الزل تُغزلها قطنة، تُحافظ على إرثٍ عريقٍ، وتُروي حكايةً من حكايات الصمود والتحدي على ضفاف نهر الفرات.