حاجي جتو
بعد الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو – سازانوف وما تلاها من اتفاقيات ومعاهدات، ظهرت الحاجة إلى حالة من الاستقرار في مختلف ربوع العالم وخاصةً منطقة الشرق الأوسط التي تمثل مصدراً للثروات وطرق ربط قارية تجارية استراتيجية، لذلك يجب أن تظل رهن الهيمنة الغربية، فتم تقسيم مناطقها وفقاً لما يخدم هذا الهدف لتظهر القوى الراهنة كنتيجةٍ مباشرة للتحولات السياسية والتغيرات الاستراتيجية الدراماتيكية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وما بعد ذلك.
ففي هذه الأثناء تشهد منطقة الشرق الأوسط حالة من التوترات المتصاعدة والصراعات المعقدة التي تمتد عبر عدة جبهات، بدءاً من غزة ولبنان وسوريا والعراق، وصولاً إلى اليمن، مع تزايد الحديث عن احتمالية حرب موسعة تشمل إيران، هذه التطورات ليست معزولة، بل مترابطة ضمن شبكة من التحالفات والصراعات الدول المهيمنة والإقليمية التي تشكل مشهداً جيوسياسياً مضطرباً ليس في الشرق الأوسط وحده بل في العالم كله، ولأن الشرق الأوسط منطقة ذات أهمية جيوسياسية تاريخياً تبقى مركزاً للصراع وساحة آنية للحرب العالمية الثالثة التي تجري فعلياً الآن وبأساليب متنوعة.
منذ اندلاع عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول 2023، التي شنتها حركة حماس ضد إسرائيل، تشهد غزة حرباً مدمرة. ردت إسرائيل بحملة عسكرية مكثفة شملت قصفاً جوياً وبرياً، مما أدى إلى مقتل أكثر من 42 ألف فلسطيني ونزوح حوالي 2.3 مليون شخص، وهو ما يمثل تقريباً كامل سكان القطاع، أمام شبه صمت دولي. مع ذلك لا تزال إسرائيل تواصل سياسة الحصار من جهة، وفتح باب المفاوضات حول تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار من جهة أخرى رغم ما تواجهه من تعثر مستمر، ولكنها حسمت أمرها في عزل حماس من المشهد تماماً.
إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل تتنافس على الهيمنة الإقليمية، مما يغذي الصراعات بالوكالة في المنطقة بشكلٍ عام ودول مثل اليمن وسوريا ولبنان والعراق بشكلٍ خاص.
في لبنان، تصاعدت حدة التوترات بين حزب الله وإسرائيل منذ بدء الحرب في غزة. حزب الله، المدعوم من إيران، شن هجمات صاروخية يومية تقريباً عبر الحدود، رداً على العمليات الإسرائيلية في غزة. إسرائيل، من جانبها، كثفت غاراتها على جنوب لبنان، مستهدفةً مواقع حزب الله والبنية التحتية العسكرية واللوجستية. أبرز التطورات كانت في كانون الأول 2024، عندما نفذت إسرائيل هجوماً واسعاً شمل تفجير أجهزة اتصال تابعة لحزب الله، تلاه اغتيال الأمين العام حسن نصر الله في غارة جوية على بيروت، ثم توغل بري محدود في الجنوب اللبناني. هذه العمليات أدت إلى نزوح حوالي 1.2 مليون لبناني ومقتل عدد من الجنود الإسرائيليين، مما زاد من المخاوف من حرب شاملة. لبنان يعاني أصلاً من أزمة اقتصادية حادة، وتقلصت إمدادات الطاقة والغذاء، مما يجعل البلاد غير قادرة على تحمل صراع طويل الأمد. الجهود الدبلوماسية لتهدئة الوضع مستمرة، لكن التوترات تبقى مرتفعة، خاصةً مع تصريحات إسرائيلية تشير إلى نية تقليص نفوذ حزب الله بشكلٍ كبير.
في اليمن، كثف الحوثيون المدعومون من إيران، هجماتهم أيضاً على السفن وناقلات النفط في البحر الأحمر، خاصةً تلك المرتبطة بإسرائيل أو الدول الغربية، مما تسبب في اضطرابات كبيرة في الملاحة الدولية. الولايات المتحدة وبريطانيا ردتا بغارات جوية على مواقع الحوثيين، لكن ذلك لم يوقف الهجمات، التي أصبحت تشكل تهديداً مستمراً، واحتمالات ضربة عسكرية في الداخل الإيراني.
بينما تبقى سوريا ساحة صراع مستمر، بعد انهيار نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول 2024، وسقوطه السريع والملفت “من خلال مخطط بريطاني إسرائيلي وموافقة أمريكية ” تشهد سوريا مرحلة انتقالية معقدة يغلب عليها عدم الاستقرار السياسي والأمني، مع محاولات لتشكيل إطار حكم جديد وسط تحديات داخلية وتدخّلات خارجية. ولا تزال ساحة لصراعات إقليمية من خلفها الدول المهيمنة، حيث تتقاطع مصالح تركيا وإيران وإسرائيل والجماعات المدعومة منهم. إسرائيل تواصل استهداف مواقع عسكرية تابعة لإيران وميليشياتها المتحالفة، مع عدم قبول واضح على التمركز وتمدد النفوذ التركي ومرتزقته ورغبته إنشاء قواعد عسكرية في العمق السوري، لذلك الاستراتيجية الإسرائيلية واضحة لمنع تعزيز النفوذ الإيراني والتركي في المنطقة. ومن ناحية أخرى، تشهد سوريا محاولات لإعادة تنظيم مجموعات مثل “داعش”، مستغلةً الفوضى الناتجة عن استمرار التوتر والصراع. الوضع السياسي في سوريا يبقى معقداً، مع استمرار الدعم التركي لبعض الفصائل في الشمال مما يزيد من تعقيد المشهد.
تكشف تقاريراستخباراتية أمريكية نشرتها الصحف الأمريكية عن تأهب إسرائيل لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية وتوجيه ضربة قاصمة للبرنامج النووي الإيراني، خاصةً في ظل التحولات السياسية والعسكرية العميقة التي يشهدها الشرق الأوسط، وإن إسرائيل ترى في ضرب إيران فرصة من زاويتين الأولى هي استغلال وجود ترامب على رأس السلطة في البيت الأبيض بما يمكنها من التأثير عليه للمشاركة في تلك العملية التي لا تستطيع إسرائيل تنفيذها بسبب نقص الإمكانات الفنية التقنية العسكرية التي تتطلب مشاركة الجيش الأمريكي، إلى جانب استغلال الحالة المترهلة في الشرق الأوسط والأوضاع الإقليمية المضطربة وتراجع الدور الإيراني في المنطقة بعد تحجيم قدرات حزب الله وحماس وحصار اليمن والعراق ولبنان، وهو ما أثر على طموحات إيران النووية ومداها الزمني الذي بدأ يضيق شيئاً فشيئاً وبشكلٍ متسارع، الأمر الذي يفسر حالة التعجل الإسرائيلي بشأن اتخاذ هذا القرار الذي ستكون له تداعيات كارثية على كل المستويات في المنطقة.
يجسد التدخّل التركي في سوريا نموذجاً لسياسات أنقرة التوسعية التي تتجاوز حدودها التقليدية، مما يثير قلق دول مثل العراق وإيران اللتين تخشيان من محاولات مماثلة على أراضيهما، وأن الوجود التركي في سوريا ليس مجرد تدخل عسكري عابر، بل هو جزء من رؤية استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تعزيز النفوذ التركي في المنطقة، سواء عبر الاحتلال المباشر أو من خلال الجماعات المسلحة التابعة لها، ومع استمرار هذا التواجد، تظل سوريا ساحة لصراع إقليمي ودولي، حيث تتداخل المصالح التركية مع مصالح لاعبين آخرين مثل روسيا وإيران والولايات المتحدة وإسرائيل، خاصةً مع تواتر أنباء عن عزم تركيا على إقامة أكثر من قاعدة عسكرية على الأراضي السورية. يبدو أن تركيا ستسعى إلى توطيد سيطرتها بشكلٍ رسمي، ربما من خلال اتفاقيات أمنية أو اقتصادية تضمن لها نفوذاً طويل الأمد، كما قد نشهد إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية في الشمال السوري، لما يخدم المصالح التركية، مع فرض ترتيبات اقتصادية تجعل سوريا تابعة لأنقرة سياسياً واقتصادياً، وهو ما قد يواجه عمليات مقاومة أو اضطرابات أمنية لرفض الهيمنة التركية، وفي هذه الحالة ستكون إيران هي الخاسر الأكبر، بعد تحجيم دورها في سوريا، أما روسيا، فقد تتكيف مع الواقع الجديد وتدخل في تفاهمات مع تركيا حول مستقبل سوريا، من أجل تسوية تشمل تقاسم النفوذ وضمان المصالح الروسية في دمشق والساحل السوري، وكل ذلك سينعكس سلباً على النظام الجديد في دمشق، الذي قد يواجه معارضة قوية من الفصائل السورية الأخرى التي ترفض النفوذ التركي، وإذا لم يتمكن الرئيس السوري المؤقت من موازنة العلاقات مع القوة المحلية والدولية، فقد يؤدي ذلك إلى صراع جديد على السلطة، وإجمالاً، فإن تركيا مستمرة وبشكلٍ رسمي في تدخلاتها بالشأن السوري، لكن هذا النفوذ الذي دعم سلطة دمشق الحالية في الوصول إلى سُدة الحكم، هو نفسه ما قد يهدد استقرار النظام الجديد.
رغم ذلك؛ لم تخسر تركيا نفوذها في العالم العربي تحت يافطة القضية الفلسطينية وإنما خسرت نفوذها في أهم منطقة تمثل عمقاً استراتيجياً على خلفية التغيير السياسي في سوريا والعراق الذي بدأ في بداية الأمر على أنه تغير لصالح دولة الاحتلال التركي. يتأكد لمراقبي التحولات الجيوسياسية في المنطقة في المرحلة الحالية تراجع النفوذ التركي والإيراني مقابل صعود إسرائيل عسكرياً وخاصة بعد اتفاقية “ابرهام” وسيطرتها على مقاليد الأمور من خلال تنفيذ ضربات عسكرية قوية وعمليات اغتيالات في أكثر من مكان حفاظاً على مصالحها التي تستدعي القضاء على الحركات الإسلامية والقوى الداعية لها، فضلاً عن مواجهتها للنفوذ التركي بمختلف المناطق، لتبقى القوة الوحيدة الصاعدة. كما يجب أن لا ننسى الكرد الذين فرضوا بمقاومتهم عبر مراحل عمر الثورة السورية نفسهم عسكرياً في سوريا وسياسياً من خلال الإدارة الذاتية الديمقراطية وما نداء السلام والمجتمع الديمقراطي الذي طرحه القائد عبد الله أوجلان في 27 شباط، وهو ما أحرج تركيا وقزّم سياساتها كما أجبر سلطة الشرع المؤقتة إلى توقيع اتفاق معهم نظراً لأن بقائهم أو زوالهم مرتبط بالتعاطي مع الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا التي أصبحت قوة بارزة على الساحة السورية ومشروع طرح حل في المنطقة.
وما نستنتجه من الآنف ذكره، الشرق الأوسط يعيش حالة من عدم الاستقرار غير المسبوق، حيث تتشابك الصراعات المحلية مع التنافسات الإقليمية والدولية. غزة تظل النقطة المركزية التي تغذي التوترات في لبنان وسوريا واليمن، بينما يشكل الصراع بين إسرائيل وإيران الخط الأكثر خطورة. الجهود الدبلوماسية لاحتواء التصعيد مستمرة، لكنها تواجه تحديات كبيرة في ظل غياب الثقة بين الأطراف.
المخاطر الاقتصادية والإنسانية لهذه الصراعات هائلة، حيث تعاني المنطقة بالفعل من أزمات متفاقمة. أي خطأ في الحسابات قد يؤدي إلى حرب شاملة، لكن هناك عوامل، مثل الحذر الدولي والضغوط الاقتصادية، قد تحد من هذا السيناريو.
إن الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا حالت دون تنفيذ المخططات التركية، وعقب مفاوضات بين الحكومة المؤقتة والمجتمع الدولي والإقليمي، تم توقيع اتفاق بين قسد وحكومة دمشق المؤقتة في محاولة لتثبيت أركان النظام المؤقت عقب ما واجهه من أحداث وأخطاء وقع فيها في الساحل السوري، ومن ثم فإن الإدارة الذاتية تمثل أحد أهم عوامل دعم الاستقرار في سوريا وباتت هي اللاعب الرئيسي على الأرض سواء عسكرياً أو سياسياً، ومن ثم فإن عدم توافق الحكومة المؤقتة مع الإدارة الذاتية يمثل بداية لقلاقل كبيرة على الصعيد الداخلي، وما يؤكد صحة تلك المعطيات هو تحفّظ تركيا على توقيع الاتفاق بين مظلوم عبدي والرئيس المؤقت بما يؤشر إلى بدء مرحلة انحسار النفوذ التركي في سوريا. في النهاية، يبقى الأمل معلقاً على إيجاد حلول سياسية تحترم حقوق الشعوب وتجنب المزيد من القتل والدمار.