دجوار أحمد آغا
خلال الأجزاء الثلاثة السابقة، تحدثنا عن ولادة القائد والمفكر الكبير عبد الله أوجلان، ومراحل حياته، من الطفولة والشباب وصولاً الى تأسيسه حزب العمال الكردستاني، ومن ثم الخروج من باكور كردستان إلى روج آفا، ومنها إلى ساحة الشرق الأوسط، وقد ذكرنا أبرز المحطات التي مرّ بها سواء خلال الانقلاب الدموي في 12 أيلول 1980، ومن ثم الرد الثوري على التعذيب الهمجي من خلال مقاومة السجون، وصيام الموت، في 14 تموز 1982، وصولاً إلى قفزة 15 آب 1984 التي أعتبرها “الرصاصة الأولى”.
رُغم هذه الظروف القاسية والاستثنائية، التي واجهت القائد عبد الله أوجلان وبحركة حرية كردستان، كان القائد ميالاً إلى السلام، وحل المشاكل العالقة والقضايا الإشكالية بالحوار والتفاوض، لكنه قالها للإعلامي التركي محمد علي بيراند، عام 1988: إنه لم يجد المفاوض القادر على المضي قدماً في التفاوض والحوار من الطرف الآخر، أي الدولة التركية، لكن رغم ذلك أطلق القائد العديد من مبادرات السلام، ووقف إطلاق النار من جانب واحد، لكنها لم تحقق أي شيء، نتيجة اللامبالاة التركية حيالها، فماذا كان رد دولة الاحتلال التركي وقوى الهيمنة العالمية، هذا ما سوف نتحدث عنه في هذا الجزء.
المؤامرة الكونية ونداء السلام
المؤامرة الدولية، حبكت خيوطها قوى الهيمنة العالمية، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وربيبتهما إسرائيل، علينا إدراك هذه المؤامرة الكونية بشكل جيد، ونتعرف إلى العزلة المشدّدة التي تمارسها دولة الاحتلال التركي بحق القائد، والتي تهدف إلى الإبادة التي تقوم بها ضد الشعب الكردي، ولكون القائد عبد الله أوجلان، يمتلك موقفاً فكرياً وسياسياً واضحاً وصريحاً ضد نظام الإبادة والأفكار الرجعية في المنطقة، نرى أن قوى الهيمنة العالمية التي شاركت في المؤامرة هي شريكة النهج القاتل الذي تسير عليه دولة الاحتلال التركي، وهذا الأمر يبدو واضحاً ومفهوماً من خلال سياساتها التي تمارسها بحقه في إمرالي.
أولى خطوات المؤامرة بدأت في التاسع من تشرين الأول 1998، بالضغط الكبير على النظام السوري، من أجل إخراج القائد عبد الله أوجلان، من ساحة المقاومة، وبالتالي سهولة وصول شبكات الاستخبارات التابعة لقوى الهيمنة العالمية، وفي مقدمتها السي أي إيه الأمريكية، والموساد الإسرائيلي، وهو ما جرى عبر الضغط على دول أوروبا وروسيا، بعدم منح حق اللجوء السياسي الإنساني له، وحدها حكومة الاشتراكي ماسيمو داليما صمدت لمدة 65 يوماً في وجه الإعصار، لكنها استسلمت في النهاية، وأنهت قوى الهيمنة العالمية المرحلة الأولى من المؤامرة في العاصمة الكينية نيروبي، بتاريخ 15 شباط 1999، عبر اختطافه وتسليمه للاستخبارات التركية.
منذ اليوم الأول لعملية القرصنة واختطاف القائد عبد الله أوجلان، وهو يعمل من أجل الوصول إلى حل دائم وشامل بالحوار وطريق السلام، بعيدا عن الحرب والقتل والدمار، لكن دعواته لم تجد آذاناً صاغية لدى قوى الهيمنة العالمية، التي كان ممثلوها أول من استقبل القائد عبد الله أوجلان، في سجن إمرالي، حيث يقول بهذا الخصوص، في مدخل الجزء الأول من مانيفستو الحضارة الديمقراطية (المدنية): “أول من استقبلني عندما أوتي بي إلى سجن إمرالي، كان على مستوى ممثل الهيئة الرئاسية للجنة مناهضة التعذيب، التابعة للمفوضية الأوربية، وكان أول ما قاله لي: “ستبقى في هذا السجن، وسنراقب وضعك، وسنسعى لإيجاد بعض الحلول عبر المفوضية الأوروبية”، وتابع: “لقد أخضعتني الدولة القومية اليونانية لمراقبة الولايات المتحدة الأمريكية واستخباراتها CIA، على أساس خيانتها للصداقة بازدواجية لا مثيل لها في التاريخ، وعندما أضيفت معادلة المصالح النفعية إلى علاقاتها مع الجمهورية التركية، أصبحتُ مقيّداً إلى صخور إمرالي في عصر الملوك العراة والآلهة غير المقنّعة، متروكاً لاجترار قدر يُضاهي في آلامه ما عاناه بروماتوس في الأسطورة الشهيرة”.
لكن رغم الحكم عليه بالإعدام، ومن ثم تحويله إلى السجن مدى الحياة، فيما بعد، إلا أنه لم ييأس واستمر في المقاومة بكل قوة والسير على نهج السلام.
الأمة الديمقراطية وحل القضية الكردية
لم تستجب السلطات القمعية التركية لمبادرات القائد عبد الله أوجلان السلمية السابقة، رغم الاستجابة من جانب حزب العمال الكردستاني والالتزام بوقف إطلاق النار من طرف واحد، خلال تلك المبادرات، وكبادرة حسن نية قام الحزب بإرسال وفد من الكريلا إلى باكور كردستان، لكن دولة الاحتلال التركي، وبدلاً من أن تقوم هي الأخرى، بالتقرب من نداء السلام بالشكل المطلوب، حيث من شأنه تعزيز فرص السلام، قامت بإلقاء القبض على أعضاء المجموعة وزج بهم في السجن.
جاء تصرفها هذا من منطلق اعتبارها أن الحزب والكريلا، في وضع ضعيف بعد القائد عبد الله أوجلان، وقامت بتفعيل خلاياها العميلة داخل الحركة ممن كانوا أصحاب نفوس ضعيفة ودنيئة، من أجل تصفية الحزب من الداخل، وفي مقدمتهم شقيقه المدعو عثمان أوجلان، لكن أصحاب الفكر الأوجلاني الحر، والمبادئ والقيم التي تلقوها عبر التدريبات والتوجيهات لسنوات طويلة، من قبل القائد عبد الله أوجلان، وقفوا بالمرصاد لهؤلاء التصفويين وأخرجوهم من الحزب بقفزة الأول من حزيران 2004، التي كانت بمثابة ثورة جديدة للشعب الكردي، وطليعته الثورية حركة حرية كردستان، التي أصبحت قائدة للنضال التحرري للكرد، وشعوب الشرق الأوسط والعالم، من خلال عملية التحول الديمقراطي التي تستند إلى مفهوم ونظرية الأمة الديمقراطية.
لقد قدّم القائد عبد الله أوجلان، نظرية وطريق الحل للقضية الكردية، وباقي القضايا العالقة في تركيا، وكردستان، والشرق الأوسط، برؤية جديدة ونظرية قائمة على أسس جديدة، ومغايرة تماماً لما كان موجود سابقاً، ألا وهي نظرية الأمة الديمقراطية المستندة الى الحضارة الديمقراطية في مواجهة غول الحداثة الرأسمالية.
الأمة الديمقراطية تستوعب سائر الهويات المتباينة، وهي بالتالي تُشكّل انتماء جديداً، في تجمع العديد من القوميات، والأديان، والإثنيات، والمذاهب، والطوائف.، أي أنها أمة مجتمعية ترتكز على أسس العيش المشترك، وتقبّل الآخر، وقدرة الإنسان فيها على إدارة نفسه بنفسه من خلال الإدارات الذاتية، التي هي الأساس في الأمة الديمقراطية السياسية، والمجتمعية، والاقتصادية، وحتى العسكرية، جاءت هذه النظرية من خلال المرافعات الخمسة التي قدّمها القائد عبد الله أوجلان خلال 2009 ـ 2010 كمرافعة للمحكمة الأوروبية، “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”.
إن حل القضية الكردية بشكل سلمي سوف يؤثر بشكل كبير على مجمل القضايا العالقة في المنطقة، وأهمها مسألة الديمقراطية وحقوق الشعوب في العيش المشترك، وفق رؤية الأمة الديمقراطية، يُعتبر هذا النموذج الحل الأنسب والأمثل للقضية الكردية.
بالتأكيد أن الحل السلمي يحتاج إلى توسيع آفاق المجتمع المدني الديمقراطي تدريجياً، من أجل الوصل للحلول المستدامة، هذا الحل يحتاج إلى تغيير في مشروع التطهير العرقي، والثقافي، الخفي الذي تفرضه الدول القومية المحتلة لكردستان على الشعب الكردي وكافة شعوب كردستان، وخلال المسيرة النضالية الطويلة للقائد عبد الله أوجلان، أكّد مراراً على أن القضية الكردية لا يمكن حلّها باستخدام العنف، بل يجب السعي من أجل حلها بشكل سلمي وعبر الحوار، وبالتالي سينعكس هذا الحل على سائر القضايا الشائكة والعالقة في المنطقة وحلها.
القائد عبد الله أوجلان وتقديم الحلول
بالتأكيد؛ إن فكر وفلسفة القائد عبد الله أوجلان، قائمة ليس فقط على تحديد القضايا والمشاكل العالقة، وإنما على وضع خارطة طريق لحلها من الأساس، فمثلاً القضية الكردية، يذكر القائد عبد الله أوجلان، في المجلد الخامس من مانيفستو الحضارة الديمقراطية، تحت عنوان (القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية دفاعاً عن الكرد المحصورين بين فكّي الإبادة الثقافية)، حيث يقوم بتحليل الحركة القومية الكردية، وعلاقتها مع الدولة القومية، ويؤكّد على أن الحل الأمثل والأنسب للقضية الكردية، يكمن في الابتعاد عن مفهوم الدولة القومية، الذي عفا عليه الزمن، وأن “السياسة الديمقراطية” و”شبه الاستقلال الديمقراطي” له أهمية كبيرة في طريق حل القضية الكردية.
إن حل القضية الكردية، بشكل ديمقراطي، يُساعد في تطوير الديمقراطية في المنطقة، والشرق الأوسط، وبالتالي ينعكس هذا الحل على مجمل القضايا العالقة في كردستان، وتركيا، وعموم الشرق الأوسط، إن وحدة المصير التاريخي بين الكرد، والأرمن، والسريان، والتركمان، والعرب، تُرجّح كفة الميزان لصالح الحل الديمقراطي في كردستان، والذي سيكون الأساس في الحل الديمقراطي في عموم الشرق الأوسط، وحل القضايا العالقة فيه.
المصادر
ـ مانيفستو الحضارة الديمقراطية بمجلّداته الخمس، وهي مرافعات القائد أوجلان 2009 / 2010 الى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان.
ـ ملحمة الانبعاث، حوار أجراه الأستاذ “يالجين كوجوك” مع القائد عبد الله أوجلان، الطبعة الأولى 1994.
ـ أوجلان الزعيم… والقضية، تأليف رجائي فايد / أحمد بهاء الدين، الطبعة الأولى 1999.
ـ مسألة الشخصية في كردستان عبد الله أوجلان، الطبعة الأولى 1986م.
ـ التاريخ مخفي في حاضرنا ونحن مخفيون في بداية التاريخ، عبد الله أوجلان الطبعة الأولى 1997م.