حمزة حرب
انتهت بعد 13 عاماً حربٌ طاحنةٍ أتت على الأخضر واليابس وخلّفت شتّى أنواع التشظي والانقسام، وسقط النظام السوريّ الذي جثم على صدور السوريين أكثر من نصف قرن مارس فيها سلطةً شموليّة قمعيّة إقصائيّة عاثت فساداً في البلادِ سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً، وليواجه السوريون معاً تركةً ثقيلةً تتطلب النظر في آلياتِ بناءِ سوريا وإنقاذها من الانهيار والتفكير بآليات مغايرة لتلك التي انتهجها النظام السابق.
لطالما تعالتِ الأصواتُ التي تنادي بضرورة حل الأزمة السوريّة وفق الحوار السوريّ ــ السوريّ إلا أنّ هذا الحوار كان يُعرقل باستمرارٍ، بينما شكّل الاتفاقُ والتفاهم الذي وقّعه رئيس المرحلة الانتقاليّة في سوريا أحمد الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطيّة الجنرال مظلوم عبدي لحظةً فارقةً من عمر الأزمة السوريّة ونقطةَ تحوّلٍ تاريخيّة من شأنها أن ترسمَ معالم سوريا الجديدة، وهو ما استقبله السوريين بالفرحِ والابتهاج لما له من أبعادَ إيجابيّةٍ ستنعكسُ على واقع ومستقبل السوريين، وقد يشكّل نواةَ تفاهمٍ أوسع على امتدادِ الجغرافيا السوريّة.
مفصلٌ تاريخيّ
ينصُ الاتفاقُ على دمج جميع المؤسسات المدنيّة والعسكريّة التابعة للإدارة الذاتيّة في شمال وشرق البلاد ضمن سوريا الجديدة، مع الاعتراف وضمان حقوق الشعوب وعدم إقصائها وتهميشها لاسيما إن الاتفاق جاء ببروتوكول يعكس أهمية الخطوة من ناحية التوقيت والمضمون لا سيما أن هذا الاتفاق قطع الطريق أمام كل الادعاءات الواهية التي تشكك في الرؤية الوطنيّة السياق الوطنيّ السوريّ الذي انتهجته الإدارة الذاتيّة وقوات سوريا الديمقراطيّة منذ تأسيسهما وإلى اليوم.
فالأمر عدّه البعض مفاجئاً من ناحية التوقيت والمضمون والتفاهم الكبير كونه لم تكن هناك إشارات تدل على أن الاتفاق سيوقّع بهذه الظروف التي تمر بها سوريا والعقد الكثيرة التي تكتنف هذا الملف لكنه ليس مفاجئاً من ناحية أخرى، لأن المفاوضات استمرت لمدة ثلاثة أشهر مع حرص كبير على أن تكون هذه المفاوضات خلف الستار لضمان نجاحها وحمايتها من التدخّلات الخارجية التي قد تضع العصي في عجلات التوصّل إلى اتفاق نهائيّ.
وخلال تصريحاتٍ خاصة لصحيفتنا أكد الناطق الرسمي باسم حزب الوطن السوريّ د. محمد درويش أنه “مما لا شك فيه إن اتفاق الشرع ــ عبدي في العاشر من آذار المنصرم حمل بين طياته الكثير من الأمل والتفاؤل لسوريا والسوريين وشكّل قاعدة يمكن البناء عليها لتفاهمات أخرى من شأنها أن تجنب سوريا بكامل جغرافيتها الكثير من المعضلات السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة وحتى الاجتماعيّة”.
لذا كان من المهم سياسيّاً ومؤسساتيّاً أن يتم توقيع الاتفاق لما يحمله من دلالات رمزيّة كبيرة تحاول استثمارها الحكومة المؤقتة ورئيس المرحلة الانتقاليّة الشرع وأن يتم إيصال رسائل متعددة إلى الداخل السوريّ والمجتمع الدوليّ والفضاء الإقليميّ بأنَّ البلادَ موحّدة وأنَّ الحوار مع الأطرافِ السوريّة عنوانُ استراتيجيّ تحمله المرحلة القادمة، وأن الثورة انتهت واليوم بدأ عصر بناء الدولة.
وعلى النقيضِ من السياسة التي انتهجتها الأنظمة السابقة خصوصاً تجاه الشعب الكرديّ في سوريا حاول الشرع أيضاً التعاطي مع هذا الملفِ بمرونةٍ عاليةٍ جداً، وذلك من خلال ما ينصُّ عليه التفاهم وهو أنّ حقوق المجتمع الكرديّ مصانةٌ في الدستورِ القادم للبلاد وأنّهم جزءٌ أصيلٌ من النسيج السوريّ، ولهم حقوق دستوريّة ناضلوا لأجلها طيلة سنوات وعقود طويلة كما أنَّ شعوبَ شمال وشرق سوريا متعايشة فيما بينها ويجب أن تكون جزءاً من بناءِ سوريا بعد أن حمَت مناطقها وقدّمت تضحياتٍ كبيرةً للحفاظ على أمن واستقرار جزء هام من سوريا.
اتفاقية الشيخ مقصود والأشرفية.. بوادر نجاح لمسارٍ وطنيّ
شكّل الاتفاق المؤلف من 14 بنداً في الأول من نيسان الجاري بين المجلس المدنيّ لحيّي الأشرفية والشيخ مقصود واللجنة المكلفة من قبل حكومة دمشق كخطوةٍ تنفيذيّةٍ لتطبيق التفاهم بين قوات سوريا الديمقراطيّة والحكومة الانتقاليّة في دمشق، والذي أفضى إلى تحقيقِ تقدمٍ ملموسٍ وجوهريّ فالسواتر الفاصلة في الحيين أُزيلت، والتنسيق على مستويات عالية فيما يخصّ الدوائر والمؤسسات وتسيير الحياة العامة في الحيين.
وحملت مقدمة الاتفاق رسالة للسوريين أنّه “انطلاقاً من الحرص على تعزيز العيش المشترك والحفاظ على السلم الأهليّ وتحقيق أهداف الثورةِ السوريّة في الحرية والكرامة، وانطلاقاً من الإيمان بأنّ التوافق بين مختلف مكونات الشعب السوريّ هو السبيل الأمثل لمواجهة التحديات الراهنة” وهذه الرسالة كانت واضحة إن إعلاء المصلحة العامة فوق كلِّ اعتبار هو الهدف والمقصد وهو ما سينعكس على الواقع الميدانيّ والاجتماعيّ والسياسيّ.
الدكتور محمد درويش بيّن أيضاً أن “الاتفاقية التي طُبقت في حيي الأشرفية والشيخ مقصود بحلب وما تلاها في سد تشرين شكّلت مجتمعةً انفراجة أعطت إيحاءات بأنّ الشجاعة السياسيّة التي تحلّت بها قوات سوريا الديمقراطيّة متمثلة بالقائد العام لهذه القوات مظلوم عبدي بعثت برسائل للإقليم والعالم أنّ الهدف الأسمى يتجلى في بناءِ وطنٍ جديدٍ مبنٍ على قيم الحرية والكرامة والعدالةِ والديمقراطيّة وهنا لابد من القولِ إنَّ الدعمَ الإقليميّ والدوليّ مهمٌ لتسهيل تنفيذ ما تم الاتفاق عليه وضمان نجاحه”.
يُعدُّ هذا الاتفاقُ خطوةً إيجابيّةً نحو تعزيز الاستقرار والسلم الأهليّ في مدينة حلب والمساهمة في تحقيق أهداف الثورةِ السوريّة، وهذا ما أشار إليه العديد من المحللين والمتابعين للشأن السوريّ خصوصاً بعد أن تبعه مؤشر نجاح لوقفِ إطلاق النار في سد تشرين أحد الملفات الملتهبة على الساحة السوريّة أيضاً، وهو ما علّق عليه القائد العام لقوات سوريا الديمقراطيّة الجنرال مظلوم عبدي بالقول: “إنّ جهود وقف إطلاق النار جاءت بعد هدنة استمرت أكثر من 12 يوماً بفضلِ جهودِ الأصدقاء”.
د. درويش نوّه إلى إن “المرحلة المقبلة تتطلب الكثير من التشاركية والابتعاد عن سياسات الإقصاء فقبول الآخر المختلف والابتعاد عن الولاءات الضيقة أمران مهمان للتقدم باتجاه سوريا تعددية ديمقراطيّة تتسع للجميع فبناء سوريا الجديدة من جميع النواحي يحتاج إلى نوايا صادقة ووضع المصلحة الوطنيّة السوريّة الجامعة فوق كل الاعتبارات وهذا ما نقرأه سياسيّاً من خلال هذه الاتفاقية التي نقيمها على إنها جاءت كنواةٍ لعملية تأسيس وترميم البيت الداخلي الذي يستطيع مقاومة عواصف الخارج ومحاولات الزعزعة التي تحاك تجاه الوطن السوريّ وهي ركن أساسي في مسار تسريع التعافي السوريّ وبناء سوريا التي يتطلع إليها السوريون”.
هذا مؤشر كبير على أنّ الملفات المعقّدة باتجاهها نحو الحلحلة وفكّ طلاسم معوقات الحلّ فيها لذا باتتِ الآمال تعلّق عليها بشكلٍ كبيرٍ على أن تنسحب آليات هذه التوافقات على كاملِ سوريا بما فيها الملفات الشائكة في الساحل والجنوب خصوصاً أنّ هناك أطراف داخليّة وخارجيّة تقتات على استمرار معاناة السوريين وإطالةِ عمر الأزمة كالاحتلال التركيّ ومجموعاته المرتزقة والتي لا ترغب في كلّ الخطوات الجارية على الساحة السوريّة، ولكن تجدُ نفسها مرغمةً على متابعة ما يجري بعينِ الريبة والحذر.
لاسيما أن المجموعات المرتزقة وتلك المتطرفة تعتبر هذه الصورة مزعجة، بأن يبدي أحمد الشرع أيّ انفتاح على القوى الوطنيّة السوريّة حتى أنّهم صُدموا بواقعٍ لم يتخيلوا يوماً رؤية صورة الشرع وهو يصافح القائد العام لقوات سوريا الديمقراطيّة مثلاً، ولا الشيخ الهجري أو يستقبل وزيرة ألمانيّة أو يبدي انفتاحاً على قوى علمانيّة.
وهذا من شأنه تعميق الفجوة بين سياسة أحمد الشرع والمجموعات المتطرفة أو التي لها ولاءات خارجيّة للاحتلال التركي مثلاً فهؤلاء باتوا من أكبر معوقات الحلِّ الوطنيّ السوريّ وباتوا عقدة في مسار الحل وعقدة حلها غاية في الأهميّة لما يشكلونه من مخاطرة كبيرة لسوريا مستقبلاً لكن أسس حل هذه العقدة غير متبلورة بعد.
نواة حلٍ شامل
وعلى الرغم من كل ما يجري على الساحةِ السوريّة من مصاعبِ تعترض طريق الحل لكن لا يمكن إلا وأن تربط بارتدادات السياسة الدوليّة والإقليميّة التي تأخذ مساراً متسارعاً على الساحة الإقليميّة بدءاً من غزة وصولاً إلى لبنان وسوريا فتجتمع الرؤى على أن الغرب وعلى رأسهم واشنطن إلى جانب دول إقليميّة يسعون إلى إغلاق ملفاتٍ عديدةٍ في المنطقة وإسدال الستار عليها والملف السوريّ ليس بمنأى عن هذه الاستراتيجية. لذا؛ فإنَّ الملف السوريّ الذي خاضت فيه أطراف دوليّة عدة جولات وجولات من أشكال إدارة الأزمة لم تُفضِ إلى حالةِ توافق، لكن اليوم على ما يبدو حان وقت إنهاء الأزمة وليس إدارتها كما في السابق. لذا؛ فإنّ السوريين أمام امتحانٍ حقيقيّ في المساهمة بإنهاء معاناتهم وفق أطر ينظمونها ويسعون لتحقيقها وتطبيقها.
الهدف إذن هو التحضير للمرحلة التالية وتمكين السوريين من تحمّل مسؤولياتهم التاريخيّة والوطنيّة أمام هذا الاختبار الصعب ليتوافقوا فيما بينهم على سيناريو رابح لجميع السوريين، ولا يجب أن ننسى أنَّ مسبباتِ الأزمة السوريّة أو مسببات معاناة السوريين قد أزيحت تماماً والمتمثلة بالنظام السابق، وما رسخه من أفكارٍ ومكائد حيكت ضد السوريين، أما اليوم فالفرصة سانحة لعدم تكرار أساليب النظام القمعيّ والانفتاح على كلّ الرؤى السوريّة لتحقيق توازن وطنيّ ثمين.
الناطق الرسميّ باسم حزب الوطن السوريّ كشف عن أنّه “بمجرد جلوس الشرع ــ عبدي إلى طاولةٍ واحدةٍ وتوقيع الاتفاق شكّل حالةً من الطمأنينةِ لدى السوريين بشكلٍ عام، خصوصاً أنّه جاء بعد الأحداث المؤسفة التي شهدها الساحل السوريّ فالاتفاقُ كان قارب النجاة الذي فوّت الفرصةَ على كلّ من يتربصُ بالنسيجِ الاجتماعيّ السوريّ شراً وشكّل نقطةً كان من شأنها أن تمثّل التأسيس لمرحلة بناء جديدة”.
مضيفاً إنّ “الكثيرَ من الأطرافِ حاولت العزف على وتر الطائفيّة والقوميّة والعرقيّة والدينيّة، لكن جاء اتفاق الشرع وعبدي وما تلاها من تفاهماتٍ لاحقة أعقبته ليشكّلَ حاجزاً منيعاً يصدّ النوايا الخبيثة الداخليّة والخارجيّة والتي مارست حرباً خاصة أرادت من خلالها إثارة الفتنة وزعزعة الاستقرار بين أطياف المجتمع السوريّ”. وبقراءةٍ موضوعيّةٍ نجد أنّ هناك تقدماً ملموساً وأنّ هناك خارطة طريق مُرحب بها كونها تظهر نضجاً سياسيّاً من قبل الأطرافِ السوريّة للجلوسِ إلى الطاولة وبلورةِ القناعة المشتركة، وأنّ هناك نقاطاً يمكنُ البناء عليها، لتكون اتفاقية “الشرع ــ عبدي” نواة بمثابة مسار وطنيّ ونواة حلٍ شامل على الساحة السوريّة ليعلق السوريّون آمالهم أن ينسحب ذلك على ملفات أخرى في سوريا لا زالت عيونهم شاخصة تجاهها وهي ملف الجنوب السوريّ والساحل السوريّ وهما ملفين تحت المجهر الدوليّ والإقليميّ المتابع لسياسات الحكومة الانتقاليّة في دمشق.