قامشلو/ دعاء يوسف ـ شهد إقليم شمال وشرق سوريا خلال السنوات الأخيرة تطوراً ملحوظاً في مجالي الثقافة والفن، فتم إنشاء مراكز ثقافية، وإطلاق مهرجانات فنية وأدبية، كما لعبت المؤسسات المدنية والإدارة الذاتية الديمقراطية دوراً في تشجيع الإنتاج الفني بلغات متعددة؛ ما ساهم في خلق فضاء ثقافي غني يعكس تعددية المجتمع وتاريخه العريق، فهل ارتقى الفن والثقافة إلى المستوى المطلوب؟
منذ فجر التاريخ، كان الفن مرآة الشعوب ولسان حالها، لا يكتفي بعكس الجمال، بل يواسي الحزن، ويصرخ في وجه الظلم. في لحظات التحول الكبرى، حين تضج الأرض تحت أقدام الثوار، يقف الفن عاملاً رئيسياً، يشعل شرارات الوعي، ويمنح الناس صوتًا لا يُقمع.
لم يكن الفن يومًا حياديًا، ولكنه في أحلك اللحظات، تحولت القصائد إلى شعارات، والأغاني إلى رايات، والمسرح إلى ساحة نضال، وقد استخدم الفنانون أدواتهم لتعرية الاستبداد، وتوثيق الانتهاكات في قصيدة أو في صورة.
من التهميش إلى التعدد
وفي خضم الأزمات والصراعات التي مرّت بها سوريا خلال العقد الأخير، برزت مناطق إقليم شمال وشرق سوريا مراكز حيوية لإحياء الفن والثقافة، بمشاريع تهدف إلى حماية الهوية الكردية والسريانية والعربية، وتعزيز التعددية الثقافية، وتوثيق التراث المحلي. هذه النهضة الثقافية التي ولدت من رحم الثورة وتقودها مؤسسات المجتمع المدني وهيئات الثقافة والفن في الإدارة الذاتية الديمقراطية، أصبحت إحدى ركائز المشروع الديمقراطي في المنطقة، وروح المقاومة والتجدد.
فمنذ تأسيس الإدارة الذاتية الديمقراطية، أولت الهيئات الثقافية أهمية كبرى للفنون المسرحية، والموسيقا، والسينما، والفنون التشكيلية، والفلكلور الشعبي. وقد أنشئت مراكز ثقافية في معظم المدن والبلدات، مثل “مركز محمد شيخو للثقافة والفن في قامشلو، ومركز روج آفا للثقافة، ومراكز حركة هلال زيرين في مناطق إقليم شمال وشرق سوريا، وغيرها الكثير”، وتعمل هذه المراكز على تنظيم المهرجانات، والمعارض، ودورات تعليم الموسيقا والرسم، وعروض المسرح والسينما.
فمناطق إقليم شمال وشرق سوريا، التي احتضنت شعوباً كردية، وعربية، وسريانية، وآشورية، وأرمنية وتركمانية، عانت لعقود طويلة من التهميش الثقافي واللغوي، ولكن منذ عام 2014، بات الاعتراف بالتعدد الثقافي واللغوي مبدأ أساسياً، حيث تُدرس اللغات الأم في المدارس، وتُقام فعاليات فنية وثقافية بلغات شعوب المنطقة.
تتنوع الفعاليات الثقافية في الإقليم، وقد برزت العديد من المهرجانات السنوية بطابع ثوري ثقافي، ومنها: “مهرجان الشهيد برجم، ومهرجان أدب وفن المرأة، ومهرجان أوركيش الموسيقي، ومهرجان الشهيد يكتا هركول للمسرح، ومهرجان أوصمان صبري للأدب، ومعرض الشهيد هركول للكتاب، ومهرجان آرين جدائل السلام، ومهرجان الطفل، ومهرجان الفن التشكيلي، ومهرجان الشعر الكردي، ومهرجان الثقافة والفن الأول في إقليم الجزيرة، ومهرجان الثقافي الأول عن دورة الشعر، ومهرجان روج آفا السينمائي، ومهرجان ميتان المسرحي، ومهرجان ليلون، ومهرجان الشهيدة زيلان، وغيرها”.
وتُقام هذه الفعاليات بمشاركة فنانين محليين ودوليين، وتشكل منبرًا للتعبير عن الهوية، والألم، والأمل المشترك، وقد كانت المرأة حاضرة في المشهد الثقافي، حيث تُنظم مهرجانات خاصة بالمرأة مثل مهرجان مسرح المرأة، وتشارك المرأة في صناعة الأفلام والكتابة والإخراج والمسرح، وأن ثقافة المقاومة والتحرر النسوي تُعد من أبرز المواضيع التي تعالجها الأعمال الفنية والمسرحية.
حوار حضاري وآفاق واسعة في الثقافة والأدب
تشهد اللغة الكردية (بلهجتي الكرمانجية والصورانية)، والسريانية، والعربية نهضة ملحوظة في الإنتاج الأدبي، مع ازدياد أعداد الكتب المنشورة، وتنظيم أمسيات شعرية وندوات فكرية، كما أن دور النشر مثل دار شلير، ودار الثقافة الديمقراطية تسهم في دعم الكتّاب المحليين.
وقد برز العديد من الكتاب في المجال الثقافي على مدار السنوات، وتنوعت اللغات المكتوبة، والكتب من شعر وقصة وكتب فلسفية وأدبية إلا أن الساحة الأدبية تغنت بالكتب الثورية والقصص المستوحاة من وحي الواقع المجتمع، فعمل الكتاب على تدوين الواقع وتسجيله، بكتاباتهم المتنوعة التي كانت لسان الثورة، وخصص معرض سنوي خاص بالكتب ومحبيها “معرض هركول للكتاب”، ومع مرور السنوات على هذا المعرض برز فيه التنوع اللغوي وشاركت فيه العديد من دور النشر العالمي، ليخرج من طابع المحلية إلى العالمية.
ويُظهر المجال الثقافي في إقليم شمال وشرق سوريا قدرة الشعوب على النهوض من تحت الرماد، وتحويل الثقافة إلى أداة مقاومة، ووسيلة لبناء هوية جماعية ديمقراطية. فالمهرجانات إلى جانب الإنتاج الفني والأدبي، ليست مجرد فعاليات، بل مساحات لحوار حضاري، واحتفاء بالتعدد، وترسيخ ثقافة الحرية والتعايش.
وبالرغم من وجود العديد من المناطق التي كانت خاضعة لمرتزقة داعش، وقد حررت، مثل: “الطبقة والرقة ودير الزور”، وجدت معارض ومهرجانات دعمت الفن والثقافة لتنهض بالوعي المجتمعي مرة ثانية.
الفنّ التشّكيلي… مرآة الأمل
يشهد الفن التشكيلي في إقليم شمال وشرق سوريا تطورًا ملحوظًا، حيث أصبح أداة تعبير عميقة عن معاناة الشعوب، وتوثيقًا بصريًا لذاكرة الحرب والنزوح والمقاومة، وهذا الفن، الذي كان مهمشًا في ظل غياب مؤسسات داعمة، وجد في ظروف الثورة والتحول المجتمعي أرضًا خصبة للنمو والانطلاق.
ففي مدن قامشلو، وديرك، والحسكة، والرقة، نشأت خلال السنوات الماضية مدارس وأساليب فنية متنوعة، تعكس الخلفيات الثقافية المختلفة للمجتمعات الكردية والعربية والسريانية والأرمنية، وتنوعت الأعمال بين الواقعية، والسريالية، والتجريدية، والنحت، مما أعطى المشهد الفني طابعًا غنيًا ومتعدد الطبقات.
وبرزت العديد من الأسماء في هذا المجال ممن ارتبطت أعمالهم بتجربة السجون والمنفى، وفنانات جسدن في لوحاتهن نضال المرأة الكردية، كما يبرز د. آرام سلام الذي جمع الفن والعلاج النفسي بالرسم التعبيري للأطفال الناجين من الحرب.
وهناك العديد من المعارض الفنية التي تُقام بشكل دوري مثل معرض الفن التشكيلي، وهناك سمبوزيوم للفنانين وورشات عمل مشتركة بالإضافة إلى معارض فردية ومشتركة أغنت الفن بجمال تنوعها، ومحاكاتها أوجاع وأمال الشعوب. كما شهدت الرقة عام 2024 أول معرض جداريات على أنقاض المباني المتضررة، حيث حوّل الفنانون الجدران المحروقة إلى لوحات تتحدث عن الحياة والمستقبل.
وأن الكثير من الفنانين التشكيليين في المنطقة ينظرون إلى أعمالهم كعملية توثيق بصري للتاريخ الشعبي، الذي لم يُكتب، خاصة ما يتعلق بالإبادة، والنزوح، والقصص غير المروية. كما أصبح الرسم وسيلة علاج نفسي للناجين، خصوصًا الأطفال، وهو ما شجع مؤسسات المجتمع المدني على دعم ورشات فنية علاجية بالتعاون مع معالجين نفسيين.
هل ارتقى الفن إلى المستوى المطلوب؟
في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية التي يشهدها إقليم شمال وشرق سوريا، يواجه الفنانون والمهتمون بالشأن الثقافي تحديات جمة تعيق تطور الحركة الفنية بشكل متكامل، ورغم بعض المبادرات الفردية والمؤسساتية التي تهدف إلى دعم الإبداع، إلا أن الواقع ما يزال يشير إلى فجوة بين الطموح والواقع.
وقد برزت العديد من المعوقات التي أعاقت حركة الثقافة والفن في المنطقة ومنها قلة الدعم المادي والمؤسساتي، فالمؤسسات الثقافية الناشئة تفتقر إلى التمويل الكافي لإقامة معارض، ورشات عمل، أو دعم الفنانين المحليين مادياً ومعنوياً، كما هناك ضعف البنية التحتية الفنية، إذ لا تزال البنية التحتية الخاصة بالفنون محدودة للغاية، سواء من حيث وجود صالات عرض احترافية، ومسارح مؤهلة، أو معاهد لتدريب الفنانين وصقل مواهبهم. كما أثرت الظروف الأمنية والسياسية بشكل مباشر على الحراك الثقافي، حيث اضطر العديد من الفنانين إلى الهجرة أو التوقف عن نشاطهم الفني بسبب الظروف غير الملائمة.
وأبرز المعوقات التي تعيق تطور الفن والأدب في إقليم شمال وشرق سوريا غياب السوق الفنية والتقدير المجتمعي الكافي، فالوعي المجتمعي بأهمية الفنون لا يزال محدوداً، ما يقلل الإقبال على الفعاليات الفنية أو اقتناء الأعمال الفنية المحلية.
رغم الظروف الصعبة، هناك مؤشرات إيجابية لا يمكن تجاهلها، فقد شهدت المنطقة خلال السنوات الماضية بعض المبادرات اللافتة في مجالات المسرح، والموسيقا، والرسم، والأفلام الوثائقية، والكتابات الأدبية التي تعكس واقع المنطقة وتاريخها وهويتها. كما بدأت بعض المواهب المحلية في تحقيق شهرة على نطاق أوسع، سواء محلياً أو عالمياً.
لكن بشكل عام، لا يزال الفن والثقافة في إقليم شمال وشرق سوريا في طور النهوض، ولم يرتقِ بعد إلى مستوى يعكس الإمكانات الكامنة في المنطقة. فهناك حاجة ماسة إلى دعم ممنهج، وفتح المجال أمام حرية الإبداع، وتوفير بيئة حاضنة تتيح للفنان أن يكون صوتاً مجتمعياً وثقافياً مؤثراً.