محمد عيسى
في الوقت الذي تكثفت فيه هجمات الاحتلال التركيّ ومرتزقته على مناطق شمال وشرق سوريا، وزاد معها حجم الدمار والضحايا، برز تشرين رمزاً للمقاومة الشعبيّة، يجسّد الإصرار على الصمودِ في وجه آلة الحرب، التي لا تميّز بين طفل وامرأة، وبين صحفيّ ومسعفٍ، بين منشأة مدنيّة وموقع عسكريّ. فمنذ الثامن من كانون الأول 2024 وحتى منتصف نيسان 2025، لم تهدأ السماء فوق السد، ولم تتوقف أصداء القصف وأصوات الطائرات المسيّرة، بينما لم يغِب الأهالي عن الموقع، بل زادت أعدادهم يوماً بعد يوم، ليؤكدوا أنّ الدفاع عن الأرض والمياه والبنية التحتيّة واجب جماعيّ، يتجاوز كل الانتماءات.
الهدف الاستراتيجيّ والإنسانيّ
يُعدّ سد تشرين من بين أكثر المنشآت حيويّةً وحساسيّة في شمال وشرق سوريا، ليس فقط لأنّه يتحكم بجزءٍ مهمٍ من مياه نهر الفرات، بل لأنّه يشكّل العمود الفقريّ للحياة اليوميّة لملايين السكان في المنطقة. فمنذ إنشائه، تحوّل السد إلى قلبٍ نابضٍ يضخّ الماء والكهرباء والأمل في آنٍ معاً، إذ تعتمد عليه قرى وبلدات مترامية الأطراف في تأمين مياه الشرب، وريّ الأراضي الزراعيّة، وتوليد الطاقة التي تغذي شبكات الكهرباء في المدن والمناطق الريفيّة، في ظل غياب بدائل مستقرّة بفعل الحصار والحرب.
إلى جانب دوره الاقتصاديّ، يُعدُّ السد ركيزةً من ركائز الاستقرار المجتمعيّ، فهو يحفظ التوازن البيئيّ، ويؤمّن فرص العمل، ويساهم في منع موجات النزوح من الريف إلى المدن، بل إنّه بات رمزاً لصمود سكان المنطقة في وجه ظروف الحرب والدمار. لكن؛ هذا الرمز المدنيّ، تحوّل في أواخر عام 2024 إلى هدف عسكريّ مكشوف أمام أطماع الاحتلال التركيّ، الذي دأب على استخدام كل أدوات الحرب الحديثة لتدمير ما تبقى من الحياة في الشمال السوريّ.
منذ كانون الأول وحتى نيسان، بدأت مرحلة جديدة من التصعيد العنيف بغارات جويّة استخدمت فيها الطائرات الحربيّة والمسيّرة، بالتوازي مع قصف مدفعيّ وصاروخيّ دقيق، طال بشكل مباشر محيط السد وجسر قرقوزاق، وحتى المناطق السكنيّة القريبة. الاستهداف لم يكن عرضياً، بل ممنهجاً ومدروساً، وركّز بشكل واضح على ضرب مقومات الحياة اليومية.
وقد وثّقت المصادر الميدانيّة استشهاد أكثر من مائة مدنيّ، غالبيتهم من الأطفال والنساء، فيما أصيب العشرات بجروح بعضها خطير. ومن بين الشهداء صحفيون ومسعفون وقادة محليون، في استهداف واضح لمن يحمل الكاميرا أو الضماد أو الصوت الحر، ما يؤكد أن الاحتلال يسعى لإخماد كلّ رواية حقيقيّة، وإسكات كلّ من يحاول الدفاع عن الحق والكرامة والمنشآت المدنيّة، التي ما زالت تقاوم على الرغم من كل الدمار.
لم تقتصر الجرائم على القصف فحسب، بل تجاوزتها إلى القتل العمد والخطف والتعذيب الممنهج، الذي ارتكبته المجموعات المرتزقة التابعة للاحتلال التركيّ، خصوصاً بعد سيطرتها على مدينة منبج بعد سقوط النظام السوريّ السابق.
وكان من بين أبرز الجرائم التي ارتكبت خلال هذه الفترة مجزرة قرية “المستريحة” بريف عين عيسى، والتي راح ضحيتها ثلاثة عشر مدنيّاً معظمهم من النساء والأطفال، ومجزرة قرية “برخ بوطان” التي قُتل فيها عشرة مدنيين من عائلة واحدة، غالبيتهم أطفال.
كما ارتُكبت مجازر أخرى في ريف زركان ومنبج، دون أن تحظى بتغطية إعلامية كافية، وسط صمت دولي مريب، وكأنّ أرواح المدنيين في تلك المناطق لا تساوي شيئاً في ميزان العدالة الدوليّة.
أربعة أشهر من الصمود
كان الثامن من كانون الثاني 2025 بداية مرحلة جديدة من المقاومة الشعبيّة في شمال وشرق سوريا. بعد نحو شهر من القصف المستمر على سد تشرين ومحيطه، اتخذ المدنيون قرارهم: لا بد من الدفاع عن الحياة، عن الماء، عن التراب. ومن هذا القرار، انطلقت أولى قوافل المقاومة المدنيّة، لتصل إلى موقع السد في مشهد لا يخلو من الجرأة والتحدي. رجال ونساء، شيوخ وشبّان، وحتى الأطفال، حملوا معهم ما تيسّر من الزاد والغطاء، لكنهم حملوا قبل كلّ شيء قلوباً لا تعرف التراجع. عندها بدأت فعاليّة “المناوبة على السد”؛ فعلٌ جماعي تحوّل بسرعة إلى رمز للصمود والمجابهة.
ومع مرور الأيام، لم تهدأ الطائرات، ولم تتوقف الصواريخ، إلا أنّ الأهالي كانوا يعودون في كل مرة، أكثر عدداً وأشدَّ عزيمةً. لم تكن القضية مجرد دفاع عن منشأة هندسيّة، بل كانت معركة من أجل الكرامة والوجود. وأمام مشهد الخراب، كان هناك صوت واحد يتردد في محيط السد: “نحميه بأجسادنا إن لزم الأمر”. السد تحوّل إلى جبهة تماس، لا تفصل بين الضفتين فقط، بل بين الحياة والموت، بين الإيمان بالعدالة وعقيدة الفناءِ.
خلال الأشهر الأربعة التالية، تعاقبت مناسبات وطنيّة ودينيّة على وجود المناوبين: من 15 شباط، إلى الثامن من آذار، ثم 15 آذار، فعيد نوروز، ومروراً بأيام شهر رمضان المبارك… وفي كلّ يوم منها، كان لهيب القصف يلتقي بحرارة الإيمان. لم تكن المناسبة تُحتفل بالشكل التقليديّ، بل كانت تُعاش بالدم والصبر، على تراب يهتز تحت القذائف، وسماءٍ لا تتوقف عن إرسال الطائرات.
ورغم أنّ الحضور في موقع السد كان سلميّاً ومدنيّاً بامتياز، لم يشفع ذلك لهم. ففي اليوم نفسه الذي بدأت فيه المناوبة، الثامن من كانون الثاني، قامت طائرات الاحتلال التركيّ على قصف القافلة الأولى، لترتقي أرواح سبعة من المدنيين، كان من بينهم زوزان حمو، عضوة تجمع نساء زنوبيا، إلى جانب كرم أحمد الشهاب الحمد، آزاد فرحان محمد حسان، مصطفى عبدي، عثمان إبراهيم، وعلي عباس شاشو.
ولم تلبث أيام قليلة حتى جدّدت آلة الحرب التركيّة استهدافها في 15 كانون الثاني، وارتقى المسعف عمر حسن شهيداً، وهو الذي لم يكن يحمل سلاحاً سوى حقيبة الإسعافات. واستشهد إلى جانبه الزوجان أدهم مصطفى علي وهيزا محمد، إضافة إلى عثمان إبراهيم للمرة الثانية في قائمة الضحايا، والطالبة الجامعية رونيز محمد علي، التي كانت تحلم بإنهاء دراستها في كلية الهندسة.
وفي 16 كانون الثاني، أصاب القصف سيارة مدنيّة كانت متجهة نحو السد، ليستشهد فيها محمد قاسمو، تاركاً خلفه ثلاثة أطفال. وفي 17 كانون الثاني، تجدد القصف على تجمع آخر، ما أسفر عن استشهاد المسعف ماهر جعفر محميد، ومحمد حسو، أحد المدنيين الذين تطوعوا في حملات الإغاثة.
ثم جاءت مجزرة 18 كانون الثاني، والتي وُصفت بأنّها الأعنف خلال شهر كانون الثاني، واستُشهد فيها ستة من المناوبين، من بينهم أكرم شيخموس حسين رخو، والرياضي المعروف كيفو عثمان، والرئيسة المشتركة لمكتب حزب الاتحاد الديمقراطيّ في مدينة قامشلو، منيجة حيدر، إضافة إلى عضوي مجلس المدينة مظفر رمضان محمد، وعبد القادر إبراهيم، وأخيراً الفنان المسرحيّ الكردستانيّ المعروف بلقب “بافي طيار”، جمعة إبراهيم خليل، الذي وقف على خشبة المسرح مدافعاً عن قضايا شعبه، ليستشهد وهو يدافع عنه في الميدان.
في 21 كانون الثاني، استشهدت حزنة عبدي، التي كانت تساهم في توزيع الطعام على المناوبين، إلى جانب محي الدين حسين عمر. أما في 22 كانون الثاني، فقد استشهد محمد شفيق إسماعيل، وهو مزارع بسيط كان يرى في حماية السد حماية لأرضه ومحاصيله.
ومع تصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبيّة، كان الرد التركيّ دموياً كعادته، ففي 25 كانون الثاني، سقط الشاب محمد خليل حمو ضحية قصف مباشر استهدف جموع المحتجين. ولم تمضِ سوى أربع وعشرين ساعة حتى هاجمت طائرة مسيّرة تجمعاً مدنياً في 26 كانون الثاني، ما أسفر عن إصابة أكثر من 34 شخصاً بجروح متفاوتة، بينهم سبعة صحفيين، والرئيسة المشتركة لهيئة التربية والتعليم في إقليم شمال وشرق سوريا، سميرة حج علي، إلى جانب نائبة رئاسة المجلس التنفيذي لمقاطعة الجزيرة، همرين علي.
وفي منتصف شباط، وتحديداً في 15 منه، طالت يد الغدر مرة أخرى أحد أبرز الأصوات الإعلاميّة في المنطقة، حين استشهد الصحفي عكيد روج، الذي كان يعمل على توثيق المقاومة وتسجيل شهادات الأهالي بالصوت والصورة، ليرحل وهو يؤدي واجبه في نقل الحقيقة للعالم.
ثم جاء شهر آذار، وفيه اجتمع رمضان بنوروز، واشتدت فيه المناوبة وتوسّع نطاقها، وتحوّل السد إلى مكانٍ تزامنت فيه الأعياد مع العزاء، واقترن الإيمان بالحرية مع صلابة التضحية. ورغم تكثيف القصف، ظلّ الأهالي يبيتون هناك، مرددين الأناشيد الوطنيّة في الليالي، ومجددين قسم الحماية في النهار.
وفي نيسان، ومع دخول الشهر الرابع، كان السد لا يزال محاطاً بالأجساد الحية، وكانت الطائرات لا تزال تراقب السماء بعين الغدر. ومع ذلك، بقي صوت النساء في الصفوف الأماميّة، وبقيت رايات الأحزاب والمنظمات ترتفع إلى جانب رايات الخبز والماء، وكانت الأنفاس تتلاحق على مقربة من الموت.
هكذا مرّت أربعة أشهر كاملة من المقاومة، محمّلة بالألم والفقد، ولكن أيضاً بالإصرار والعزة. كان الزمن ثقيلاً، وكانت السماء مشتعلة، لكن ما زال هناك من يصرخ “لن نغادر”، وما زالت المناوبة على السد مستمرة، كشعلة لا تنطفئ في وجه العاصفة.
جهود الحوار… بارقة أمل
في الثاني عشر من نيسان 2025، حطّت في منطقة سد تشرين قافلةٌ سياسية وعسكريّة مشتركة، ضمّت ممثلين عن قوات سوريا الديمقراطيّة وقوات التحالف الدوليّ، إلى جانب وفد مدنيّ من الإدارة الذاتيّة، وآخر من الحكومة الانتقاليّة بدمشق. وجاء هذا التحرك في لحظة حسّاسة، محاولة لفتح باب المفاوضات، واستكشاف إمكانيّة التوصل إلى اتفاقٍ قد يضع حداً لحالةِ التصعيد المستمرة، ويعيد للمنطقة بعضاً من هدوئها الذي فقدته منذ شهور. وكانت الزيارة خطوة رمزيّة أولى في طريقٍ شائكٍ، لكنه يظل ضروريّاً وسط العاصفة.
وبعد يومين، في الرابع عشر من نيسان، خرج حسين السلامة، رئيس لجنة سلطة دمشق المختصة بالمفاوضات، بتصريحات صحفيّة أظهرت شيئاً من التفاؤل. وأعلن عن لقائه القائد العام لقوات سوريا الديمقراطيّة، مظلوم عبدي، واصفاً الحوار بأنّه كان إيجابياً وبنّاءً، ومؤكداً على وجود التزام متبادل ببنود الاتفاق السابق بين الطرفين. وأضاف أنّ المرحلة الثانية من هذا الاتفاق قد دخلت حيّز التنفيذ في حيي الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، وبدأ العمل على إزالة السواتر الترابيّة وفتح الطرقات المغلقة منذ سنوات، ما يُعد مؤشراً ميدانيّاً على تحسّنٍ نسبيّ في مناخ الثقة.
الأهم من ذلك، وفقاً لسلامة، هو الاتفاق على تنسيق زيارة ميدانيّة أوليّة إلى منطقةِ السد، كجزءٍ من خطةٍ أوسع تهدفُ إلى وقفِ الاشتباكات، وتهيئةِ الأرضيّة لعودة المؤسسات الرسميّة، والخدمات الحيويّة إلى المنطقة. تصريحات السلامة، رغم أنّها تحمل طابعاً دبلوماسيّاً، بعثت شيئاً من الأمل لدى الأهالي المنهكين من الحرب، لكنهم، في الوقت نفسه، ينظرون إلى تلك الوعود بحذرٍ شديد. فالتجارب السابقة علمتهم أنّ الكلام، مهما كان منمقاً، يبقى بلا قيمة ما لم يرافقه تنفيذ واضح على الأرض، وخصوصاً في ظل استمرار الطائرات التركيّة في تحليقها التي تنذر بشيء دفين.
سد تشرين، الذي تحوّل من منشأة اقتصاديّة إلى ساحة نضالٍ مدنيّ وعسكريّ، بات يُعرف اليوم باسم: “سد الشهداء”. ولم يعد مجرد بناء يضبط تدفق مياه نهر الفرات، بل أصبح رمزاً ناطقاً بصوتِ الشعوب في وجه الاحتلال، ودليلاً حياً على قدرة الإنسان على التحوّل من ضحية إلى مقاوم. إن ما يجري هناك يتجاوز كونه اعتداءً عسكريّاً على بنى تحتية، بل هو محاولة ممنهجة لتدمير مجتمع بأسره، ومسح ذاكرة كاملة من الوجود، بدءاً من الماء، ومروراً بالكهرباء، وانتهاءً بالكرامة.
ومع كل ذلك، هناك حقيقة ثابتة لم تغيّرها آلة الحرب: أنّ صوت الناس، مهما خُنق تحت ركام البيوت، ومهما مُزق في أروقة الإعلام الصامت، لا يموت. إنّ نهر الفرات، وإن حُبست مياهه خلف السدود، سيظل مصدر الحياة، ويجرف معه كل ما يعترضه في مسار الخير. وما دام هناك من يقول “لا” بوجه الطغيان، ويقف بثبات على ضفاف المقاومة، فالسد، وكلّ نقطة ماء وكلّ قطرة دم سالت في سبيله، شواهد بأنّ الشعوب لا تُهزم طالما آمنت بقضيتها.