آرين سويد
في أرضٍ أنهكتها الحروب، ولم تترك للكلمات مكاناً، وقفت المرأة الكردية في روج آفا، لا لتبكي للخسارات، بل لتعيد ترتيب الحياة على مقاس الحرية.
في قاعة صغيرة بمدينة قامشلو، أنهت 300 امرأة كردية من مختلف أنحاء روج آفا وسوريا أعمال المؤتمر الأول للنساء الكرديات. المكان بسيط، لكن القضية ثقيلة، والإرادة أعتى من الخراب.
اجتمعت النساء لرسم خريطة طريق، تتحدى الإقصاء وتكسر صمت التاريخ. خرجن بنداء سياسي صريح: “آن أوان عقد مؤتمر وطني كردستاني شامل، على مستوى أجزاء كردستان الأربعة”. ليس ترفاً سياسياً، بل استجابة لحقيقة جغرافيا ممزقة، وشعب موزع على الحدود، ونساء يرفضن أن تُنسى تطلعاتهن تحت طاولة الحسابات الإقليمية والدولية.
لم يكن المؤتمر لحظةً عابرة، بل كان إعلاناً بأن المرأة الكردية لن تعود إلى الظلم، من قلب المعاناة، من ذاكرة الشهداء، من وجع التهجير، ومن عناد البقاء، أعلنت النساء أنهن لسن جزءاً من الهامش، بل ركيزة في قلب المعركة، معركةً لا تُختصر بالسلاح فقط، بل بالكلمة، والتنظيم، والتفكير المشترك، وبناء مشروع سياسي شامل تُرسم فيه حدود الكرامة قبل الجغرافيا.
المرأة الكردية لم تعد تطالب بحقوق متجزئة تُمنح لها من وراء الأبواب المغلقة، هي تكتب عقداً اجتماعياً جديداً، ليس كمجرد وثيقة، بل كفلسفة للعيش المشترك، تليق بتضحيات النساء، وتؤسس لمجتمع لا يُدار بالعقلية الذكورية ولا بالقرارات المُسقطة من أعلى.
هذا ليس مجرد حراك نسوي، بل هو قلب الصراع السياسي والاجتماعي، نضال من أجل وطن لا يُدار من فوق، بل يُبنى من القاعدة، من الشوارع، من النساء اللاتي حملن الخبز والسلاح، وواجهن وحدهن سياسات التجويع والتهميش والاستبداد.
لم يعد الدفاع خياراً للمرأة الكردية، بل صار واجباً وجودياً، فإن بقيت صامتة، فقد تُمحى، وأن تناضل هو أن تضمن بقاءها وبقاء مجتمعها. ولهذا؛ لم تكتفِ برفض الدساتير المفروضة، بل اقترحت نموذجاً بديلاً، أكثر عدلاً، وأكثر حرية، وأكثر واقعية: “سوريا ديمقراطية، تعددية، لا مركزية، تكون فيها النساء في قلب القرار، لا على هوامشه، بنسبة لا تقل عن 50%، ليس كمجاملة، بل كضرورة لبناء سلام حقيقي”.
في مؤتمر قامشلو، لم تطلق النساء خطاباً عاطفياً، بل وضعن جدول عمل، وخارطة نضال، تبدأ من استعادة الحق، ولا تنتهي إلا بإعادة تشكيل سوريا على أسس تضمن حقوق جميع شعوبها، وفي مقدمتها النساء. هذا الصوت لا يمكن كتمه بعد الآن، لأنه خرج من رماد الحرب، ولأنه تعلم كيف يصوغ الحياة من تحت الأنقاض. الوحدة الكردية للمرأة الكردية، ليست حلماً رومانسياً، بل ضرورة سياسية، لأن الشتات لا يلد حرية، ولأن أعداء الحرية يستثمرون في الانقسام أكثر مما يستثمرون في السلاح.
ما حدث لم يكن نهاية مؤتمر، بل بداية فصل جديد في تاريخ النساء الكرديات. تجربة تجاوزت الأطر التقليدية للسياسة، وفرضت معادلتها الخاصة: “لا حرية بلا نساء، لا وحدة بلا صوت المرأة، لا مستقبل بلا مشاركتها في صناعة القرار.”
المرأة الكردية لم تعد تحارب فقط من أجل حقها، بل من أجل مستقبل مشترك تُبنى فيه الأوطان من النساء، من الناجين والناجيات، من الشجعان والشجاعات. ولهذا، لن تخرج من ساحة الفعل، لن تنتظر، لن تتوسل. ستصوغ، ستبادر، وستبقى.