د. طه علي أحمد
رغم القيود المادية التي فرضتها سياجات سجن إمرالي على القائد والمفكر عبد الله أوجلان، إلا أنه منذ اعتقاله اللاإنساني واللاقانوني من جانب قوات أمن تركية أمام القنصلية اليونانية في كينيا في 15 شباط 1999م، إلا أنه لم يعبأ بحدود السجن، ولم يكترث بقيوده فبَدَت له آفاق الحرية أقرب إلى الممكن رغم واقعه المأزوم. غير أن هذا الواقع، رغم تأزمه، لم يحول دون استمرار مسيرة القائد أوجلان النضالية التي ارتكزت منذ بواكيرها على الحرية والديمقراطية كقيمة إنسانية بعيداً عن نظرته التقليدية على السياق الأوسع للقضية الكردية في محيطها الشرق أوسطي، بل في إطار عالمي أوسع، وهو الإطار التاريخي للديمقراطية الذي تعاقبت عليه أشكال مختلفة من مقاومة التجمعات البشرية منذ مراحله العشائرية والقبلية ضد المدنية بكافة مساوئها، وصولاً إلى الدولة القومية باعتبارها سبيلاً لهيمنة الرأسمالية، إذ لا تستطيع الرأسمالية أن تصعد على درجة النظام المهيمن من دون بعثرة وتشتيت الإمبراطوريات، والقضاء على الجمهوريات الديمقراطية المعرقلة لها، ولهذا يضع القائد عبد الله أوجلان تعريفاً لهذه الدولة القومية باعتبارها الإطار القانوني لاتحاد مجموع أجهزة السلطة المستفحلة ضمن الوجود الكلي للمجتمع من جهة، والأفراد الذين يسمون المواطنين من جهة أخرى في عصر الحداثة الرأسمالية. وبالتالي، ففي حين كانت شرعية الدولة مؤطرة قبل ذلك بمؤسسات الدولة فإذا بالدولة القومية تتجسد فيها المواطنة بما يتلائم مع المصالح الأيديولوجية، ومن خلال الأداة الأيديولوجية تكتسي الدولة القومية مكانة مقدسة، حيث تصبح غاية في ذاتها.
ومن رَحِم هذه المعاناة وبعد جهدٍ فكري دؤوب ولدت أطروحة “الأمة الديمقراطية” التي اعتبرها القائد أوجلان سبيلاً لتجاوز الأزمات المجتمعية والتي نتجت بالأساس عن تغول الدولة القومة المنحازة للفئات المسيطرة عرقياً أو دينياً، كما يسعى القائد أوجلان من خلالها لخلق نموذج تكاملي للتعايش بين الشعوب، وتجاوز أية تمايزات عرقية أو دينية أو غيرها، ولهذا فبعد نقدٍ عميق لنموذج “الدولة القومية” توصّل المفكر عبد الله أوجلان إلى “الأمة الديمقراطية”.
لقد تأسَّس الفكرُ النقديُ للمفكر عبد الله أوجلان من انتماءاته الاشتراكية الناقدة طوال الوقت لـ “الحداثةِ الرأسمالية”، والتي خرجت من عباءتها الدولة القومية، كونها إحدى اللَّبِنَات الأساسيةُ لقاعدة “الربح الأقصى” لدى الرأسمالية، ومُحال تحقق الربح الرأسمالي من دون دولة قومية، ولهذا دار النسقُ الفكريُّ عنده في فَلَكِ التحليل الماركسي الذي وضع الطبقة العاملة كطليعةٍ ثوريةٍ للمجتمع في صراعها ضد البرجوازية والرأسمالية، والتحول إلى المجتمع الاشتراكي ثم الشيوعية التي تتضاءل عندها الدولة والسلطة، لكن رُغمَ اعتناقه للاشتراكية العلمية، إلا أن القائد أوجلان لم يُسَلِّم باعتبارها حتميةً مطلقة، لاسيما وأنها وقفت شاهداً على تدهورها أمام الرأسمالية والتطور العلمي وما أسفرت عنه من أوجهِ قصورٍ في الفلسفة الماركسية. لكنَّ؛ ذلك لم يثنِ الميول الاشتراكية التي غَلَّفَت وتجذَّرت في عُمقِ النسق الفكري (العقيدي) لدى القائد عبد الله أوجلان، لاسيما وأنه وقف شاهداً على أزمة الدولة القومية، وراصداً لِتَسَلُّطِ الطبقات المُسَيطرة على رأس المال حول العالم. كما رصد القائد أوجلان تداعيات هذه الهيمنة على تدهور حال البشرية وانتشار الحروب وغياب موازين العدالة حول العالم، فالدولةُ مُنتج بشري بالأساس، وهي منتجٌ تسعى قوى الحداثة الرأسمالية لتوظيفه من أجل تفتيت المجتمع بغرض السيطرة عليه واستغلاله. وبالتالي، فإن الدولةَ تعدُّ بمثابة أداة في المقام الأول، أو بالأحرى هي أداة حداثية من المنظور الأوجلاني. فما الحروب والصراعات المستعرة في كافة أرجاء العالم إلا تعبيرا صارِخاً عن أزمة الدولة القومية وفشل الحداثة الرأسمالية التي قامت على نهب الإنسان واستغلال ثرواته.
لقد ارتبطت هذه الخلاصات بما عاشه القائد أوجلان خلال “مرحلة النقد الذاتي”، وهي المرحلة التي تكشفت فيها حقيقة الدولة القومية وجوهرها المضاد للاشتراكية والديمقراطية، وقد ساعد ذلك في الانهيار السريع أو أزمة الاشتراكية في تسعينات القرن العشرين، وقد ارتبط ذلك بتحليل العلاقة بين السلطة والدولة، لذلك كان تركيز صاحب الأمة الديمقراطية الأبرز منصباً على تحليل ظاهرة السلطة والدولة، حيث خلص إلى أن تحول السلطة إلى دولة قومية يعتبر ركيزة رأسمالية أي أن الدولة القومية كانت بمثابة الأداة المحورية لبسط هيمنة الرأسمالية، ومن ثم يستحيل إنشاء الاشتراكية على ركيزة الدولة عموماً والدولة القومية خصوصاً، إذ يعني ذلك خلق رأسمالية متدنية وأشد رعونة كما في حالة الصين وروسيا، وعليه فقد خلُص المفكر عبد الله أوجلان إلى أن الدولة القومية لا يمكن أن تكون مبدأً لدى الاشتراكيين بل يتمثل البديل في الأمة الديمقراطية كحلٍّ رئيس، وهو ما يتجلى في منظومة المجتمع الكردستاني، فقد تأكَّدَ لدى القائد أوجلان استحالة أن يُبدي نموذجُ الدولةِ القوميةِ أيةَ نجاعةٍ في استيعاب متطلبات إدارةِ العمران البشري وتلبية احتياجاته وإدارة التنوع الذي يميز المجتمع الإنساني. لذا، فقد تَمَثَّل الهدفُ الرئيسُ لأوجلان في البحث عن سُبلٍ لتحطيمِ جدارِ الاغتراب وتفريغ سياسة الإنكار التي تعرضت لها الهويةُ الكردية، وهو ما توصل إليه القائد أوجلان عن طريق “الأمة الكردية”.
لم يقترب المفكر عبد الله أوجلان لمفهوم الأمة عبر المنظار Approach الذي اعتمده الكثيرون في تعيين هذا المفهوم. فقد ركزت غالبيةُ الاجتهادات على المنظور الإثني Ethnicity في تعيين ما هية الأمة؛ فهناك من انطلق من محورية اللُّغةِ كأساسٍ لروحِ الأمة وحريتها، ووعاءٍ لذاكرتها التاريخية، وهناك من اعتمد على أسطورة وحدة الأصل والدعم كآصرةٍ ناظمةٍ للأمةِ باعتبارها نتاج لانصهار عشرات الأجناس والأعراق عبر التاريخ. وهناك ـ أيضاً – من انطلق من أسطورة وحدة التاريخ، وربط القوميةِ بالوطنِ وجعلهما مُترادفان حتى أصبحت الأمة هي الوطن المعنوي، في حين تصبح الدولة وطناً فعلياً، وكثيراً ما ترامت أطراف هذا الجدل الذي شغلت مكانةُ الدينِ فيه حيّزاً كبيراً ما بين من اعتبر الدين أحد مراحل التطور التاريخي للقومية، وبالتالي فهو ليس محوراً للهوية من جهةٍ، ومَن دَمَجَ الدين في القومية، فهذا ميشيل عفلق يعتبر أن العلاقة بين الإسلام والعروبة لا نظيرَ لها بين أي دينٍ وقومية أخرى، فهو (أي الإسلام) سِرُّ عبقريتها والعُنصرُ الوحيد فيها المطلق المتجاوز للزمان والمكان، فالإسلام عند عفلق ليس مجرد دين، بل هو ثقافةٌ قوميةٌ هي أثمن ما في العروبة.
لكن المفكر عبد الله أوجلان يعتبر الأمةَ “ظاهرة أو مجموع علاقات مُلتفة حول الوعي القبلي والوعي الديني، مُمْتَزِجَتين مع كُلٍّ من السُلطةِ السياسيةِ المشتركةِ والسوق”، فالأمةُ عنده هي مفهومٌ افتراضيٌ نشأ بتدرجٍ مع تَكَوِّنِ عالمٍ ذهنيٍ وثقافي مشتركٍ بين الطبقات والأجناس والألوان والأثنيات المختلفة.
وعلى هذا تصبح الأمةُ في المنظور الأوجلاني هي شكل المجتمع الذي يَلي تحول الكلانات والعشائر وقبائل القربى إلى كيانات كالقوم أو الشعب أو الملة، والأمة تتحدد عنده وفقاً لوجود ذهنية مشتركة، أي أنها ظاهرة موجودة ذهنياً، إنها أمة معرفة على أساس الثقافة، فحتى نكون بصدد أمة يجب أن يتكون عالم ذهني مشترك، رغم اختلاف الطبقات أو الجنس أو اللون أو الإثنية أو حتى جذور الأمة، وعلى هذا نظر لأيديولوجيا الأمة باعتبارها “قدس الأقداس” لدى الدولة القومية، بل إن الدولة العلمانية ما هي إلا تجسيداً عينياً لكافة ألوهيات العصور الأولى والوسطى، وفي هذا الإطار استُبدل الحق الإلهي للملوك في الدولة الوسطى، بقداسة الدولة القومية وما يتفرع عنها من مصطلحات مثل الوطن والأمة والسوق وما يمكن أن يعظم الربح الأعظم. وما الشعارات مثل “علم واحد” و”وطن واحد”، و”لغة واحدة”، و”دولة مركزية واحدة”، ما هذه الشعارات وغيرها، إلا أشكال العبادة في الدين القوموي، تماماً كما الحال في العصور القديمة حينما كانت كل الأشياء تدور حول احتكار السلطة واستغلاها، وما الدولة القومية إلا أداة لاستغلال السلطة لقمع المجتمع وأداة لتنظيم العنف.
في هذا السياق، يخرج المفكر عبد الله أوجلان بمفهوم “الأمة الديمقراطية”؛ كبديلٍ عصرانيٍ يَتَشَكَّل في إطاره المجتمع الذي يختفي فيه التهميش والاستهلاك الاجتماعي، ففي إطار هذا المجتمع لا تُعَدُّ الجغرافيا ولا اللغة بين مُحَدِّدات الأُمَّة؛ ذلك أنها أمةٌ تقومُ على التنوعِ وإدارته بطريقةٍ ديمقراطية، وكسبيلٍ لجعل هذا المفهوم، أو ذلك الطرح، إنسانياً، ليس حكراً على جماعةٍ أو فئةٍ بعينها، يسعى القائد أوجلان لِدَمْجِ الشعب الكُردي في مُحيطةِ البشري (الإنساني) في إطارٍ تكاملي. فالعنصر الكردي، يمكنه العيش المُشتَرك مع التعدديات والأقوام المختلفة استناداً لمفهوم “الأمة الديمقراطية”، مع تمكين كافة مكونات المجتمع من العيشِ في ظِّلِ حرية ممارسة الثقافة واللغة، ولهذا يقول القائد أوجلان: “الأمةُ اصطلاحاً هي شكلُ المجتمعِ الذي يَلي تَحَوُّلَ الكلاناتِ والعشائرِ وقبائلِ القُربى إلى كياناتٍ كالقومِ أو الشعبِ أو المِلَّة، والذي غالباً ما يُصَنِّفُ ذاتَه وفقَ تَشابُهِ اللغةِ والثقافة، والمجتمعاتُ الوطنية أوسعُ نطاقاً وأكبرُ حجماً من مجتمعاتِ القبائلِ والأقوام، ولهذا، فهي تجمعاتٌ بشريةٌ تَربطُها ببعضِها بعضاً روابطٌ رخوة”.
لقد تأسَّست الرؤية الأوجلانية على عجز النظريات الرأسمالية عن حل مشكلات المجتمع المتفاقمة التي نتجت بالأساس عن دور القوى الرأسمالية المتسلط والمنحاز، ولهذا فقد استهدف طرح الأمة الديمقراطية إعادة توحيد صفوف المجتمع البشري العالمي ومعالجة المشكلات التي خَلَّفَتها الدولة القومية، ولعل في ذلك ما يُسهم في تقديم مساهمات قَيِّمة لتوحيد العالم الثقافي للشرق الأوسط بعد أن قسمته وقادته الرأسمالية العالمية إلى التفتيت إلى مئات الأقليات والتنظيمات والقبائل والمذاهب.