محمد عيسى
في زمنٍ تتقاطعُ فيه الحروبُ بالوكالة مع الحروبِ الاقتصاديّة، لا تبدو الرسوم الجمركيّة مجرد قرارٍ سياديّ تقنيّ، بل يصبح بيانَ حربٍ معلنٍ بلغةِ الأرقام والضرائب. لقد عادت أمريكا ترامب، الرئيس العائد بزخم شعبيّ محافظ، إلى المشهدِ المألوف: رئيسٌ يرى في التجارةِ الدوليّة مؤامرة، وفي الاتفاقيات عبئاً، وفي الأسواق ساحة مواجهة، يخوضُ الحرب بلا هوادة في عالم الاقتصاد وعقد الصفقات مقابل السلام، وهي حربٌ لا تقلُ ضراوةً عن ميادين القتالِ التقليديّ.
في التاسع من نيسان الجاري، خرج ترامب ليعلن عن رفعٍ فوريّ للرسوم الجمركيّة على السلع الصينيّة إلى 125%، في خطوةٍ غير مسبوقة منذ عقود. إعلانٌ جاء من على منصة “تروث سوشال”، في لحظة بدا فيها أنّ النظام التجاريّ العالميّ يعيش اهتزازات تُنذر بزلازلٍ كبرى. ولم يكنِ التصعيدُ الأمريكيّ مفاجئاً في جوهره، لكنه حمل هذه المرة طابعاً أشدَّ حدّةً، بلغةِ تهديدٍ واضحة: “لم يعد مسموحاً استغلال الولايات المتحدة”.
بين الصياغات السياسيّة الحادة وردود الفعلِ العالميّة، يقفُ العالم الآن على تخوم أزمة تتجاوز واشنطن وبكين. إنّها ليست فقط مواجهة بين قوتين اقتصاديّتين، بل اختبارٌ شاملٌ لنظام العولمة التجاريّة برمّته، وللقدرة الجماعيّة على تفادي انهيارٍ جديدٍ في الأسواق العالميّة.
الرسوم الجمركيّة وجبهات النار التجاريّة
ليس جديداً على ترامب أن يستخدمَ سلاحَ الرسوم الجمركيّة كأداةِ ضغطٍ ومناورة. منذ ولايته الأولى، وهو يروّج لنموذج اقتصاديّ يقوم على فكّ الارتباط التدريجيّ مع النظام العالميّ التقليديّ، وعلى تحويلِ التجارة إلى معادلةٍ ثنائيّةٍ خاضعةٍ للابتزاز والمقايضة. لكن؛ القرار الجديد، برفع الرسوم إلى 125%، على الصين يُشكّل ذروة هذا التوجّه، ويؤذن بمرحلةٍ جديدةٍ من الحرب التجاريّة.
الرئيس الأمريكيّ لم يكتفِ بالإشارة إلى “استغلال” الصين، بل سارع إلى تطبيق القرار فوراً، في حركة بدت وكأنّها استعراضُ قوةٍ، ورسالة، أنّ عصر المجاملة الاقتصاديّة قد انتهى. الخطاب جاء محملاً بروح قوميّة صريحة: “أيام استغلال الولايات المتحدة انتهت”. وهو خطاب ٌيتقاطعُ مع الرؤية الاقتصاديّة التي لطالما تبناها ترامب، حيث تُعدّ التعريفات الجمركيّة جوهر استراتيجيته لإعادة بناء الداخل الأمريكيّ، وإعادة تشكيل قواعد التبادل التجاريّ بما يخدم المصالحَ الضيّقةَ لواشنطن.
لكن خطوةً بهذا الحجم لم تكن فقط موجّهةً ضد الصين. بل بدت وكأنّها رسالةٌ مزدوجة إلى الداخل والخارج، إلى المستثمر الأمريكيّ والخصم الجيوسياسيّ، إلى الرأسماليّة العالميّة ذاتها. ترامب يريد أن يعيدَ كتابة قواعد اللعبة، وأن يكسرَ الأعرافَ الدبلوماسيّة التي كبّلت رؤساء سابقين، وأن يخوضَ معركة السوق دون حسابات الخسائر على المدى القصير.
ومع فرض رسوم بلغت سابقاً 104%، ثم رفعها لاحقاً إلى 125%، بدا واضحاً أنّ واشنطن تدير صراعاً طويلَ الأمد، لا يتوقف عند العجزِ التجاريّ أو التلاعبِ بالعملة، بل يتعداه إلى الصراع على قيادة الاقتصاد العالميّ. ومن جهة أخرى، جاءت تصريحات ترامب بشأن تعليق رسوم بنسبة 10% لمدة 90 يوماً، كتكتيك تفاوضيّ أكثر منه بادرة حسن نية. إذ بدا القرار أشبه بـ”استراحة محارب” قبل جولة جديدة من التصعيد.
رد الفعل الصينيّ، كما كان متوقعاً، جاء صارماً: رفع الرسوم الانتقامية إلى 84% على الواردات الأمريكيّة، مع تهديد ضمني بالتصعيد. ما يجعل الأزمة مرشحة للتفاقم أكثر، خاصة أن الصين، التي اعتادت ضبط النفس في مواجهاتها مع واشنطن، بدأت تتبنى مؤخراً سياسة أكثر حزماً، تعكس تحوّلاً في ميزان الردع المتبادل.
عندما تشتعل الأسواق
في اليوم التالي مباشرة لقرار ترامب، أعلنت وزارة المالية الصينيّة فرض رسوم جديدة بنسبة 84% على السلع الأمريكيّة، لتكون رداً مباشراً ومتكافئاً من حيث التوقيت والحدة. هذا التصعيد لم يكن فقط في إطار الردّ التقني، بل شكّل إعلاناً صريحاً بأن بكين لم تعد ترى فائدة في انتظار مبادرات دبلوماسية غير مثمرة.
الصين لم تكتف بالرسوم، بل وسّعت “قائمة الكيانات غير الموثوقة”، وفرضت قيوداً على تصدير بعض العناصر الأرضية النادرة، وهي مواد بالغة الأهمية في الصناعات التكنولوجية. كما أرسلت رسالة سياسيّة: إذا كانت واشنطن تلعب بورقة الاقتصاد، فبكين تمتلك أيضاً أوراقاً حاسمة، من سوق الاستهلاك إلى سلاسل التوريد.
الهزة امتدت بسرعة إلى الأسواق العالميّة. البورصات شهدت تراجعات حادة، وتراجعت القيمة السوقية لشركات كبرى بمئات المليارات. شعور عام باللايقين بدأ يسود، فالعالم لم يعد متيقناً إلى أين تتجه هذه الحرب، ولا من سيكون الرابح أو الخاسر في نهاية المطاف.
لكن الأهم هو الانقسام العالميّ حول الموقف من التصعيد. فبينما دعمت بعض الدول الحليفة لأمريكا هذه الخطوة، تحفظت أخرى، بل وأعلنت عن نوايا لاتخاذ تدابير مضادة.
منظمة التجارة العالميّة بدت عاجزة عن التأثير، ما أعاد الجدل مجدداً حول فعالية المؤسسات الدوليّة في عصر التفكك والتحول نحو السيادة الاقتصاديّة. ومع تصاعد اللهجة بين واشنطن وبكين، باتت احتمالات الركود العالميّ أقرب من أي وقت مضى.
حلفاء واشنطن بين المطرقة والسندان
المواجهة الأمريكيّة – الصينيّة لم تترك لحلفاء واشنطن كثيراً من الخيارات. الاتحاد الأوروبي، الحليف الأطلسي الأكبر، بدا في موقف لا يُحسد عليه. ففي حين رفض فكرة التصعيد الجمركيّ من حيث المبدأ، إلا أنه اضطر إلى التفكير بإجراءات مضادة لحماية مصالحه الصناعية والزراعية.
ألمانيا دعت إلى ضبط النفس، لكنها بدأت مناقشة اتفاقيات بديلة مع المكسيك وكندا. فرنسا، بقيادة ماكرون، لم تُخفِ امتعاضها، ودعت إلى رد “رقمي” يشمل فرض ضرائب على شركات التكنولوجيا الأمريكيّة. أما إيطاليا، فطالبت بتخفيف قواعد الإنفاق الأوروبي لمواجهة “الضربة الاقتصاديّة” الناتجة عن الخطوة الأمريكيّة.
بريطانيا، الساعية لإعادة تموضعها الاقتصاديّ بعد بريكست، دخلت خط الأزمة بحذر. حكومة كير ستارمر لم تستبعد تدابير مكافحة إغراق ضد المنتجات الأمريكيّة، لكنها في الوقت ذاته أبدت رغبة في إبرام اتفاقات تقلّص من أثر الرسوم المفروضة عليها.
كندا والمكسيك، الشريكتان في اتفاقية التجارة الحرة الجديدة، واجهتا معضلة معقدة: هل تتبعان واشنطن في خياراتها، أم تبحثان عن مصالحهما الذاتية؟ كندا فرضت رسوماً مضادة على واردات أمريكيّة، بينما دخلت المكسيك في نقاش معقد حول مدى التزام واشنطن ببنود الاتفاق الثلاثي.
الهند، من جهتها، رأت في الأزمة فرصة لتوقيع اتفاق تجاريّ ثنائي مع واشنطن، لكنها لم تُخفِ قلقها من أن تتحول إلى ضحية جانبية في هذا الصراع. اليابان وكوريا الجنوبية اختارتا طريق التفاوض، لكن دون نتائج ملموسة حتى الآن.
أما دول مثل تايوان وفيتنام، فقد تبنّت سياسات هجينة: محاولة كسب ود واشنطن، وتفادي التصعيد مع الصين. فيتنام عرضت تسهيلات جديدة لشركات أمريكيّة، بينما قدمت تايوان وعوداً بإزالة الحواجز غير الجمركيّة.
في المجمل، يظهر أن الحلفاء القدامى باتوا أمام لحظة حرجة: هل يستمرون في دعم أمريكا رغم نزعاتها الأحاديّة، أم يعيدون تموضعهم في عالم يتغير بسرعة؟ السؤال الأهم: هل لا تزال واشنطن حليفاً يمكن الوثوق به في عهد ترامب؟
اقتصاد عالميّ على حافة الهاوية
تُجمع التحليلاتُ الاقتصاديّة على أنّ العالم يقفُ على مشارفِ تغييراتٍ عميقة. فالحرب التجاريّة الراهنة لا تتعلق فقط برفع أو خفض رسوم، بل بتفكك تدريجي لنظام اقتصاديّ عالميّ بُني على اتفاقيات ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وتُهيمن عليه مفاهيم السوق المفتوحة والعولمة.
ترامب لا يُخفي عداءه لهذا النظام. يرى فيه خيانة للاقتصاد الأمريكيّ، ويحمّله مسؤولية ضياع ملايين الوظائف، وتآكل الصناعات المحليّة، وارتفاع العجز التجاريّ. من هنا؛ فإن استراتيجية الرسوم ليست عابرة، بل نابعة من رؤية متكاملة تهدف إلى إعادة بناء أمريكا وفق تصور قومي مغلق.
لكن السؤال الكبير: هل يمكن فعلاً تغيير قواعد السوق العالميّة بإجراءات أحاديّة؟ وهل يمتلك ترامب، أو أي زعيم آخر، القدرة على فرض منطق الحصار الاقتصاديّ في عصر سلاسل التوريد العابرة للقارات؟
الوقائع تشير إلى أنَّ آثار الرسوم غالباً ما تكون عكسيّة، فالتعريفات تُنقل إلى المستهلك عبر ارتفاع الأسعار، وتُربك الاستثمارات، وتدفع الدول الأخرى للبحث عن بدائل، ما يؤدي إلى تفكك الأسواق بدل تنظيمها.
ومع تصاعد ردود الفعل، بدأت ملامح نظامٍ عالميّ جديد تتشكلُ، لا يقوم على القطبيّة الأحاديّة، بل على توازناتٍ متغيرةٍ، واتفاقيات محليّة، وتحالفات جديدة. وإذا استمرت الأزمة دون حلول، فقد نشهد خلال السنوات القادمة ولادة نظام تجاريّ متعدد المحاور، أقل مركزيّة، وأكثر صراعاً.
من يربح في لعبة النار؟
في لحظةِ التحولِ هذه، يبدو أن لا أحدَ يخرج رابحاً بالكامل. أمريكا قد تحقق بعض المكاسب الظرفيّة، لكن الثمنَ سيكون باهظاً على المدى البعيد. والصين تردّ، لكنها أيضاً تحاول احتواءَ الضرر. أما بقية العالم، فسيحاول النجاة في بحرٍ من الفوضى الاقتصاديّة.
ترامب لا يقود فقط حرب رسوم، بل يقود ثورة على النظام الاقتصاديّ القديم. لكنها ثورة بلا تحالفات واضحة، وبلا رؤية جماعية. وإذا استمرت الاتجاهات على هذا النحو، فقد نجد أنفسنا أمام عالمٍ تتفكك فيه العولمة، وتعود فيه السيادةُ الاقتصاديّة إلى الواجهةِ، لكن بثمن لا يستطيع أحد تحمّله.
الرسوم الجمركيّة اليوم ليست مجرد نسب مئويّة على المنتجات. إنّها أعمدة نار تشتعل تحت جسد الاقتصاد العالميّ، تحرق خطوط الإمداد، وتشوّه العلاقات الدوليّة، وتهدّد المستقبل.
فمن يُطفئ النار أولاً؟ ومن يُشعلها من جديد؟