دجوار أحمد آغا
تحدثنا في الجزء السابق عن ميلاد القائد عبد الله أوجلان، والبدايات، والتحول الثوري، ومن ثم انطلاقة حزب العمال الكردستاني في 27 تشرين الثاني 1978، إن كل ما قام به القائد عبد الله أوجلان، منذ طفولته وإلى يومنا هذا، يدل وبشكل قاطع على ولادة مفكّر عظيم وفيلسوف يقف إلى جانب الشعوب، كي تعيش بحرية وسلام دون المساس بالدولة، مناضل أممي يًذكّرنا بالمناضلين الثوار أمثال (أحمد بن بلة، وباتريس لومومبا، ونيلسون مانديلا، وتشي غيفارا، وفيديل كاسترو، ومارتن لوثر كينغ وغيرهم)، الذين ناضلوا من أجل شعوبهم ووقفوا في وجه الإمبريالية العالمية، وقوى الهيمنة التي تحتكر السيطرة على مقدرات الشعوب.
القائد عبد الله أوجلان، ومن خلال دراسته العميقة للتاريخ، والفلسفة، والاقتصاد، وتعمقه في التحليل، استطاع الوصول إلى طريق الحل أي أنه لم يضع يده فقط على الجرح، بل أوجد له الدواء. لذا؛ استطاع أن يحافظ على شعب على شفير الانحلال والإبادة، من خلال إعادة الروح له، وإشعاره بأنه شعب حي، يستطيع مقاومة الأعداء، لا بل والانتصار عليهم.
نضال الحزب وخروج القائد عبد الله أوجلان
منذ اليوم الأول لتأسيس الحزب، وكوادره وأعضاؤه كانوا يعملون ليل نهار، من أجل تحقيق الأهداف التي تم التأسيس من أجلها، هذه الأهداف كانت تكمن في إعادة الروح للجسد، ونقصد هنا الشعب الكردي الذي قال الأتراك عنه، إنهم دفنوه في قبر فوق سفح جبل آكري، بعد القضاء على ثورة آكري 1931.
شعرت الفاشية التركية بخطورة الموقف في ظل تنامي الروح الوطنية، وانطلاقة حركة حرية كردستان، من خلال كوادرها، وخاصة قادة الرعيل الأول، وفي مقدمتهم القائد عبد الله أوجلان، فسعت إلى زرع عملاء لها بين صفوف الحركة، حيث وضعوا القائد عبد الله أوجلان تحت المراقبة، وعلى الرغم من قيامها باعتقال البعض من كوادر وأعضاء حزب العمال الكردستاني، لكنها فشلت في تتبع ومعرفة أماكن تواجده، الذي شعر بخطورة الوضع وكان يعلم أنه مراقب، الأمر الذي دفع به إلى مغادرة باكور كردستان، إلى روج آفا، ومنها إلى الشرق الأوسط.
قبل حدوث انقلاب 12 أيلول الفاشي سنة 1980، شعر القائد عبد الله أوجلان، بأن “الكونتر كريلا”، قد أمسكت بزمام الأمور في تركيا، وهناك خطر على حياته، خاصة مع ارتكاب مجازر مرعش وتقسيم، لذا قرر الخروج من الوطن، وفي الثاني من تموز 1979 أخبر رفيقه “أدهم أكجان”، المنتمي من بلدة سروج، بالتأهب لعبور الحدود المصطنعة بين باكور، وروج آفا.
وقد تحدث القائد بنفسه، عن خروجه في المجلد الخامس، من مانيفستو الحضارة الديمقراطية: “مع حلول المساء دخلت الخطوة الثانية من الجاهزية قيد التنفيذ، فالمرشد الذي يُسمّى (جهني Cehni) أيقظنا قائلاً هيا، وعندما قام حارس الحدود برفع الأسلاك الشائكة، وتم المرور عبرها، قال: (هيا يا ابن بلدي، أسرع)، عبرنا على الفور حقل الألغام، بوضع قدمي مكان وطأة قدم أدهم، والسير كما يسير الماعز، هذه التجربة كانت لي خطوة تاريخية، افتقرت فيها للجاهزية أكثر مما كان عليه، دون كيشوت بعينه”.
انقلاب 12 أيلول ومقاومة السجون 1982
كان الهدف الرئيسي للانقلاب الدموي الذي جرى في تركيا في 12 أيلول 1980 برعاية ودعم الولايات المتحدة الأمريكية، مهاجمة المجتمع وطليعته الثورية، وكسر إرادته، التي بدأت بالتكون بعد نزول الثوار بين صفوف الشعب، ما دفعه للنضال من أجل حقوقه المشروعة، لذا نرى كيف مارس القائمون على الانقلاب أبشع أنواع التعذيب، والعنف الممنهج، ضد المجتمع بشكل عام، والثوار على وجه الخصوص.
لذا، رأينا كيف هاجموا المجتمع بضراوة، وقاموا باعتقال العديد من الثوار، والزج بهم في الزنازين والمعتقلات، أردوا بذلك تحطيم مصدر ثقة المجتمع وأمله في الظفر بالحرية، بحيث تم اخضاع المجتمع لنظام الإبادة الجماعية، دون أن يعترض على ذلك، وأصبح سجن آمد العسكري المركز الرئيسي لاعتقال كوادر وأنصار حزب العمال الكردستاني، وبعد زجهم في السجن، تعرضوا للتعذيب الوحشي الذي يفوق الخيال، لكن رغم كل ذلك، لم يستطع أسعد أوكتاي”، ولا قادته أن ينالوا من إرادة المقاومة الفولاذية، لدى كوادر حركة حرية كردستان، الذين سطّروا بمقاومتهم صفحات التاريخ بأحرف من ذهب، ولم يبخلوا بأرواحهم من أجل كردستان.
من أعظم المقاومات في العصر الحديث، ليس فقط في كفاح ونضال شعبنا الكردي، بل وفي تاريخ البشرية، كانت هذه المقاومة، التي جاءت كرد فعل من قادة الحزب، ضد القسوة والوحشية والتعذيب الفظيع، الذي كانت تمارسه سلطة الانقلاب وإدارة سجن أمد، وتلك المقاومة لم يكن يتوقعها أحد، لأنها اتسمت بالجرأة والشجاعة الكبيرة.
تحت قيادة الرفاق (محمد خيري دورموش، وكمال بير، وعاكف يلماز، وعلي جيجك)، وأمام المحكمة العسكرية التركية، أعلن محمد خيري دورموش، رفضه للمحاكمة والمثول أمامها، وكان “صيام الموت”، وفي تلك الأوقات لم يكن يجرؤ أحد على خوضها غير العظماء، بدأت المقاومة بأربعة رفاق، وانتشرت في كل مهاجع السجن، وانتصرت إرادة المقاومة، وتحققت صرخة مظلوم دوغان، كاوا العصر، “المقاومة حياة”، هذه الصرخة التي تبناها كوادر وأعضاء الحزب في السجون والمعتقلات، وصنعوا من مقاومتهم واستشهادهم جراء صيام الموت، حياة جديدة، وأفشلوا بالتالي مخطط دولة الاحتلال التركي، بالقضاء على حركة حرية كردستان، من خلال فرض الاستسلام على أعضائها من الخونة أمثال، جتين غونغور “سمير”، وغيره الذين عملوا على إثارة موضوع الندم والاعتراف، الأمر الذي أدى إلى حدوث حالات من “التوبة والاعتراف”، لدى البعض.
قفزة 15 آب 1984 ونداء السلام
انتقلت المقاومة من السجون والمعتقلات، إلى قمم الجبال والكهوف والوديان، بعد أن انتصرت مقاومة السجون، وأوقفت النزيف الحاصل في جسد الحزب، من خلال فرض الاستسلام بعمليات التصفية، داخل السجن، لكن القائد عبد الله أوجلان، قرر البدء بمرحلة الكفاح المسلّح، والتي كان قد تم التحضير لها منذ سنوات، كان من المفروض أن يتم البدء بالمقاومة عام 1983، ولكن نتيجة لعدم جهوزية الرفاق في الداخل، تم تأجيلها إلى العام 1984.
قفزة 15 آب التاريخية، كان من المفروض أن تشارك بها ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى، التي حملت اسم مجموعة 18 أيار، بقيادة ترزي جمال، وأبو بكر، وكان من المفترض أن تشارك لكنها وبحجة عدم قدرتها للوصول الى المكان المطلوب لم تُشارك في الحملة، المجموعة الثانية، والتي حملت اسم مجموعة 21 آذار، بقيادة عبد الله أكنجي، ومحمد سفكات “بدران”، وصلوا إلى المكان المطلوب “شمزينان”، لكن تم كشفهم قبل سيطرتهم على المدينة، وخاضوا معركة مع العدو قبل بدء الحملة، أما المجموعة الثالثة، والتي حملت اسم مجموعة 14 تموز، بقيادة معصوم قورقماز “عكيد”، فقد دخلت إلى “أروه” في سيرت، وسيطرت عليها وأعلنت البدء بالكفاح المسلح.
القائد عبد الله أوجلان، رجل سلام، ومناضل من الطراز الرفيع، دفعت به ظروف الإبادة التي كانت تفرضها دولة الاحتلال التركي على شعبه، باللجوء إلى الكفاح المسلّح، الذي يعدُّ من أرقى أشكال الكفاح والنضال، لكنه دوماً كان يسعى إلى حماية الشعب، والكوادر، والأنصار، ومنع إراقة أي قطرة دم.
خلال العام 1988 وكانت الحرب على أشُدّها بين قوات الكريلا، وجيش الاحتلال التركي، قام الإعلامي التركي المتميز، محمد علي بيراند، صاحب برنامج اليوم 32 الأشهر في تركيا – والذي توفي في 17 كانون الثاني 2013، بزيارة القائد عبد الله أوجلان، في ساحة الشرق الأوسط، وأجرى لقاء معه، شكّل جدلاً واسعاً بين الأوساط التركية، بعد نشره في جريدة “ملييت”، التي قررت سحب العدد من الأسواق ومنع النشر، خلال هذا اللقاء أوضح القائد عبد الله أوجلان، بأنه مستعد لحل القضية عبر الحوار السلمي، ولكنه لم يجد في الطرف المقابل من يتحاور معه.
وتكررت نداءات السلام من القائد عبد الله أوجلان، دون وجود آذان صاغية من الطرف الآخر، حتى الإعلان الرسمي الشهير في آذار 1993، بوساطة المناضل الكردي الكبير الراحل مام جلال الطالباني، الذي جاء إلى القائد عبد الله أوجلان، بطلب من الرئيس التركي، وقتها الراحل توركوت أوزال، الذي مات مسموماً فيما بعد، نتيجة تقربه المرن تجاه عملية السلام آنذاك، وكانت هناك العديد من نداءات السلام ووقف إطلاق النار، من جانب واحد أعلنها القائد عبد الله اوجلان، ولكن تقرب السلطات التركية لم يكن بالشكل المطوب دائماً.
المصادر
ـ مانيفستو الحضارة الديمقراطية بمجلّداته الخمس، وهي مرافعات القائد أوجلان 2009 / 2010 الى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان.
ـ ملحمة الانبعاث، حوار أجراه الأستاذ “يالجين كوجوك”، مع القائد عبد الله أوجلان، الطبعة الأولى 1994.
ـ أوجلان الزعيم والقضية، تأليف رجائي فايد / أحمد بهاء الدين، الطبعة الأولى 1999.
ـ مسألة الشخصية في كردستان، عبد الله أوجلان، الطبعة الأولى 1986.