روناهي/ الحسكة ـ في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها سوريا، تبرز نساء إقليم شمال وشرق سوريا رائدات للتغيير، يحملن مشعل المساواة والحرية في مجتمع طالما هيمنت عليه الثقافة الذكورية. من خلال تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية، نجحنَ في كسر القيود الاجتماعية والسياسية، ليصبحنَ عناصر فاعلة في صنع القرار ومحاربة الإرهاب وبناء السلام.
في خضم الأزمة السورية التي دامت لأكثر من عقد من الزمن، برزت ظاهرة لافتة في إقليم شمال وشرق سوريا، حيث أصبحت المرأة عنصراً فاعلاً في صنع القرار السياسي والعسكري والاجتماعي.
هذا التحول الجذري لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة رؤية ثورية تبنتها الإدارة الذاتية الديمقراطية، القائمة على مبادئ “الأمة الديمقراطية” التي أعادت تعريف دور المرأة في المجتمع.
في هذا التقرير، نلتقي بثلاث نساء من مدينة الحسكة، كل منهن تمثل نموذجاً مختلفاً لنضال المرأة السورية في ظل هذه التحولات التاريخية، جمانة عبيد، وشيرين محمد، وفيندا سيمون، يشاركننا رحلتهن نحو التحرر والمساواة، والتحديات التي ما زلن يواجهنها في مجتمع لا يزال يحمل رواسب الماضي الذكوري.
من الظل إلى دائرة الضوء
تستذكر “جمانة عبيد” أيامها قبل عام 2011: “كنا نسير في الشوارع ونخفض أبصارنا، لا صوت لنا في البيت ولا في المجتمع. حقوقنا كانت تُمنح لنا بقدر ما يسمح به الرجال”.
لكن كل شيء بدأ يتغير مع انطلاق الثورة السورية وتشكيل الإدارة الذاتية، بينت جمانة: “لأول مرة في تاريخنا، سمعنا مصطلحات مثل ‘الكوتا النسائية’ و’المساواة الجندرية’. في البداية ظننتها شعارات براقة، لكنها أصبحت واقعاً ملموساً”.
المكاسب والتحديات
تشير جمانة إلى أن نظام “الكوتا” الذي تطبقه الإدارة الذاتية جعل تمثيل المرأة في المجالس المحلية والإدارية يصل إلى 50%، وهي نسبة غير مسبوقة في المنطقة: “اليوم لدينا نساء يتولين مناصب قيادية في كل المجالات، من رئاسة البلديات إلى قيادة الأجهزة الأمنية”، وتضيف بفخر: “لكن الطريق لم يكن معبداً بالورود”. ونوهت جمانة عبيد: “ما زلنا نواجه مقاومة من بعض العائلات المحافظة التي تمنع بناتها من المشاركة في العمل السياسي. كما أن التهديدات الأمنية مستمرة، خاصة من الأفكار المعارضة لمشروع المساواة”.
النضال والإصلاح
من جانب أخر، تروي “شيرين محمد” قصتها المؤثرة: “عندما اجتاح داعش منطقتنا، شاهدت النساء، وكيف تم بيع بناتهن في أسواق النخاسة. في تلك اللحظة قررت أن أكون جزءاً من المقاومة”.
وتابعت: “كانت معركة التخلص من الإرهاب والتسلط مضاعفة”، وأضافت: “نحارب الإرهاب من جهة، والتقاليد البالية من جهة أخرى. كثيرون كانوا يصعب عليهم تقبل فكرة امرأة تحمل السلاح”.
تسلط شيرين الضوء على أحد أهم إنجازات الإدارة الذاتية الديمقراطية: “ألغينا المحاكم السلطوية التي كانت تميز المرأة. الآن لدينا قوانين متطورة تحظر تعدد الزوجات، وتضمن حقوقاً متساوية في الميراث والطلاق”.
في السياق، تركز “فيندا سيمون” على الجانب الثقافي من الثورة: “لأول مرة في تاريخ سوريا الحديث، أصبح بإمكاننا تعليم أطفالنا بلغتهم الأم، سواء كانت كردية، أو سريانية، أو عربية”.
وتحدثت فيندا عن كتابة المناهج التعليمية: “تم حذف أشكال التمييز ضد المرأة والجماعات الإثنية من الكتب المدرسية”، وأوضحت: “يتعلم الطلاب أن المساواة هي أساس المواطنة”.
الطموح والضغوط
تواجه هذه التجربة انتقادات من جهات عدة: “بعض العشائر ترفض فكرة خروج المرأة للعمل”، تقول جمانة: “أما التيارات المتشددة فترى فينا تهديداً لنظامها الأبوي”.
تشير شيرين إلى أن “دولة الاحتلال التركي تعدُّ مشروعنا النسوي خطراً وجودياً. كثير من زميلاتنا استهدفن باغتيالات”.
رغم كل التحديات، تبدو النساء الثلاث متفائلات بمستقبل أفضل. “نحلم بيوم تصبح فيه تجربتنا نموذجاً لكل سوريا”، تقول فيندا: “نريد أن نثبت أن المحافظة والمساواة ليسا متناقضتين”.
ضرورة تعميم التجربة
واليوم، في خضم البحث عن أسس بناء سوريا الجديدة، تقدم تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا نموذجاً فريداً يستحق الدراسة والتطوير. لقد أثبتت هذه التجربة أن تمكين المرأة ليس مجرد شعارات حقوقية، بل مشروع مجتمعي متكامل قادر على إحداث تحولات عميقة في بنية المجتمع.
فما كان لا يعتقد أن تطور المرأة أحلاماً نسوية بعيدة المنال، أصبح اليوم واقعاً ملموساً في مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية، حيث تشارك المرأة في صنع القرار السياسي والعسكري والاقتصادي بندية كاملة مع الرجل.
في هذا السياق ترى جمانة: “لعل أهم ما يميز هذه التجربة هو طبيعتها الشمولية التي تجاوزت الشكلية السياسية إلى البنيوية المجتمعية. فلم يقتصر الأمر على تخصيص مقاعد نسائية في المجالس المحلية، بل امتد ليشمل إعادة صياغة المنظومة القانونية والتعليمية والاقتصادية برؤية تحقق المساواة الجوهرية”.
وتردف: “لقد نجحت الإدارة الذاتية الديمقراطية في تحويل المرأة من متلقٍ للقرار إلى صانع له، ومن موضوع للحماية إلى فاعل في الأمن المجتمعي، وهو تحول تحتاج سوريا بأكملها إلى استيعابه وتبنيه”.
فيما تضيف شيرين: “كما استطاعت نساء إقليم شمال وشرق سوريا كسر الحواجز الاجتماعية والثقافية في مجتمعات محافظة، يمكن تكرار هذه النجاحات في باقي المناطق السورية”.
وتؤكد: “المطلوب هو رؤية سياسية واضحة تصنع التحول بآليات تدريجية ذكية، تبدأ بإصلاحات قانونية جريئة، وتنتهي بتغيير الثقافة المجتمعية عبر التعليم والإعلام”.
أما فيندا فتقول: “مستقبل سوريا الجديدة سيبقى ناقصاً ومشوهاً ما لم تحتل المرأة مكانتها الطبيعية كشريك كامل في عملية البناء. التجربة الرائدة في مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية تثبت يومياً أن المساواة ليست ترفاً ثقافياً، بل ضرورة استراتيجية لأي مشروع وطني ناجح”.
وتختتم: “الدول التي تهمش نصف طاقاتها البشرية محكوم عليها بالفشل، بينما تزهر المجتمعات التي تعرف كيف تستثمر في كل مواطنيها بغض النظر عن الجنس”.
ثورة داخل الثورة
تجربة نساء إقليم شمال وشرق سوريا تمثل ثورة داخل الثورة السورية. لقد نجحن في تحويل منطقة تشتهر بالصراعات إلى مختبر للديمقراطية والمساواة. كما تثبت قصصهن أن التغيير الحقيقي يبدأ عندما تتحرر المرأة وتأخذ مكانها الطبيعي كشريك كامل في بناء المجتمع.
في الوقت الذي ما زال فيه العالم يناقش سبل حل الأزمة السورية، قد تكون الإجابة موجودة في نموذج إقليم شمال وشرق سوريا، حيث تثبت المرأة يومياً أنها ليست مجرد ضحية للحرب، بل يمكن أن تكون أقوى أداة للسلام والبناء.