رامان آزاد
يعدُّ حلّ اللواء الثامن بقيادة أحمد العودة التابع للفيلق الخامس أكبر المجموعات المسلحة جنوبي سوريا حدثاً كبيراً باعتباره ملفاً شائكاً وتحدياً على المستويين الأمنيّ والعسكريّ، وتطلب حله جملة عوامل ظاهرها حادث اغتيال وفوضى أمنيّة وعملية حصار وضغوط عسكريّة، فيما الجانب غير المعلن فيتعلق بمساعي سياسيّة، ولم يكن تزامن زيارة رئيس حكومة دمشق المؤقتة أحمد الشرع إلى الإمارات مع إنهاء اللواء مجرد صدفة، إذ لطالما كانت الإمارات الداعم الأساسيّ لقائد الفصيل أحمد العودة، الذي عُرِف أيضاً بعلاقاته وتحولاته المتعددة والمتناقضة ووصِف أيضاً بأنّه رجل روسيا.
حلّ اللواء الثامن وإنهاء قضية درعا
الأحد 13/4/2025، أصدر اللواء الثامن بياناً أعلن فيه حلّ نفسه بشكلٍ كامل وتسليم مُقدراته العسكريّة والبشريّة لوزارة الدفاع التابعة للحكومة السوريّة المؤقتة، وظهر القياديّ في اللواء الثامن، العقيد محمد الحوراني، في مقطع مصور يعلن فيه رسميّاً حل اللواء بشكلٍ كاملٍ، وقال: “سيتم وضع كافة المُقدرات العسكريّة والبشرية التابعة للواء تحت تصرف وزارة الدفاع”.
وكان اللواء الثامن كغيره من المجموعات قد حاول طرح أو فرض شروطه للاندماج في الجيش السوريّ الجديد. وأبرز تلك الشروط رفض منطق التابع والمتبوع، بتذويب المجموعات ضمن هيكليّة عسكريّة وطنيّة، مع احتفاظ بعض المجموعات الأخرى بامتيازات خاصة وفق ترتيبات.
وجاء قرار الحل بعد دخول قوات الأمن العام والجيش إلى مدينة بصرى الشام أبرز معاقل اللواء الثامن، عقب توتر أمنيّ شهدته المدينة، بعد وفاة القياديّ بوزارة الدفاع بلال الدروبي أبو يزن في أحد مشافي العاصمة دمشق، السبت 12/4/2025، نتيجة إصابته قبل يومين، بعدةِ طلقات ناريّة أثناء اعتقاله على يد عناصر مجموعة “أحمد العودة” في مدينة بصرى الشام، وتداولت صفحات محليّة اعتقال الدروبي بتهمةِ التجارة بالمخدرات، كما قيل أيضاً إنّه اعتُقل بسبب انشقاقه عن اللواء الثامن وانضمامه لوزارة الدفاع.
التطورات في ريف درعا تسارعت وجاءت على مفاجئ، بدءاً من دخول قوات الأمن العام ووزارة الدفاع إلى مدينة بصرى الشام وليس انتهاءً بحل اللواء، ووفق التحقيقات الأولية وُجّهت أصابع الاتهام إلى مسلحين سابقين من داخل اللواء الثامن. باغتيال الدروبي الذي كان قد خرج من صفوف اللواء الثامن قبل فترة.
والواقع أنّ القرار بحلّ اللواء كان مطروحاً ولكنه لم يُحسم، وكان أحمد العودة يشترط الحصول على ضمانات تتعلق بالرتب العسكرية والنطاق الجغرافي لانتشار قواته، ونقلت صحيفة الشرق الأوسط في 18/1/2025، عن مصدر مقرب من قائد اللواء الخامس قوله: “نحن منذ البداية مع تأسيس وزارة الدفاع، وما حصل من إشكال هو مجرد طرح رأي ووجهة نظر عن دخول المجموعات بشكلها المنظم الحالي ضمن جيش سوريا الجديد، وذلك بشكلٍ أولي فقط، ريثما يتم تطوير الجيش”، لكن حادث الاغتيال أوقد شرارة المتغيرات، وبرزت حالة الاحتقان وارتفعت الأصوات المطالبة الشعبيّة بتدخّل قوات الأمن وحفظ السلم الأهليّ عجّلت وتيرة الأحداث.
وأعلن العقيد محمد الحوراني (أبو عصام) ظهر في بيانٍ مصوّر القرار، مؤكداً أنّ اللواء “استجاب للتوجهات الوطنية” وأن النقيب محمد القادري قد كُلّف بمتابعة إجراءات التسليم والتنسيق مع الجهات الرسمية لإتمام عملية انتقال العناصر وتسليم السلاح، وبذلك يُطوى فصل طويل من تشكيلٍ نشأ من قلب المعارضة المسلحة، ليعود تحت مظلة الدولة.
حصار ومفاوضات
تصاعد التوتر بين “اللواء الثامن” ووزارة الدفاع في سلطة دمشق المؤقتة في ظلّ استمرار الخلاف حول مسألة الاندماج الكامل في صفوف الجيش الجديد، وفيما أعلنت فيه وزارة الدفاع، في شباط الماضي، أنّ نحو مئة فصيل وافقوا على الانضمام للجيش، فقد تحفّظ أحمد العودة على الانخراط الكامل، رغبةً بالحفاظ على سلطته المحليّة. وساءت علاقة العودة مع مجموعات درعا، ولم ينجح خلال أربعة أشهر في بناء جبهة متينة تُجبِر سلطة دمشق على الاستجابة لمطالبه.
بعد وفاة الدروبي بساعات تحوّلت المدينة إلى مركز احتجاج وغضب، وخرجت دعوات من مكبرات الصوت في المساجد تطالب بعدم دفن جثمانه قبل محاسبة المسؤولين عن اغتياله، وقالوا إنّهم لن يقبلوا دفنه قبل محاسبة القتلة، وحمّلوا أحمد العودة شخصيّاً المسؤولية. كما وُجّهت اتهامات مباشرة إلى قياديين بارزين داخل اللواء بينهم: أحمد الطعمة (المعروف بالكاسر) وعبد الكريم الدوس (الملقب بالسفاح)، بوصفهما من أعطيا أوامر تنفيذ عملية الاغتيال، بحسب مصادر محليّة.
ورداً على الحادثة، أطلقت قوات الأمن العام حملة أمنيّة واسعة شملت سلسلة مداهمات واعتقالات في مناطق متعددة من ريف درعا الشرقي، طالت عناصر من اللواء الثامن والفيلق الخامس في قرى مثل: صيدا، الجيزة، المسيفرة، معربة، والمتاعية، وبالتوازي، بدأ بعض قادة محليون داخل اللواء تسليم أسلحتهم طوعاً، بينهم القيادي المعروف بـ”أبو أكرم” الذي أعلن تسليم كافة العتاد والسلاح الذي بحوزته.
في ذروة التوتر، فُرض حصار محكم على مدينة بصرى الشام، مع تعزيزات أمنية مشددة وإغلاق للمداخل. وجرت مفاوضات شاقة بين قوات الأمن العام وقيادة الفيلق الخامس واللواء الثامن، تمحورت حول تسليم السلاح والخضوع الكامل لإدارة الدولة، وأبدت قوات من عشائر السويداء استعدادها للتدخل ودعم عملية اقتحام محتملة للمدينة بحال فشل المفاوضات، ما شكّل ورقة ضغط إضافيّة على قيادة اللواء.
الجمعة، عقد الأمن العام اتفاقاً مع “اللواء الثامن” يقضي بسحب السلاح الثقيل والخفيف من مدينة بصرى الشام، بحسب مصدر أمنيّ، وقال إنّ الاتفاق تضمن تسليم المطلوبين الذين أطلقوا النار على الدروبي.
وفي إطار اتفاق التسليم الشامل، سلّمت قيادة اللواء كلاً من أشرف الدروبي المقداد وفايز العمر المقداد، المتهمين بالمشاركة في اغتيال بلال الدروبي. كما تم تسليم أسلحة العناصر في معظم المناطق التابعة للواء، بما فيها بصرى الشام.
وداهمت قوات الأمن العام “سجن أبو ناصر” السريّ داخل المدينة، وعثرت فيه على 14 سجيناً، تم نقلهم لاحقاً إلى سجون رسميّة لمتابعة التحقيقات، وكان السجن يُدار من قِبل القياديّ أبو ناصر المقداد، وتبيّن أنّه واحد من عدة معتقلات غير رسميّة يديرها اللواء، بينها سجن داخل قلعة بصرى، لا تزال السيطرة عليه محل تفاوض. وبإعلان حلّ اللواء الثامن، يُطوى ملف أحد أبرز المجموعات التي ظهرت بعد التسوية في الجنوب السوريّ، وسط حالة ترقب لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع الأمنيّة في درعا.
تحولاتٍ وتعدد الأدوار
أحمد العودة أحد أبرز القادة العسكريين في جنوبي سوريا، وُلد في بصرى الشام، وتخرّج في قسم الأدب الإنجليزي بجامعة دمشق، وعمل في الإمارات، وعاد بعد انطلاق الثورةِ السوريّة، وانضم مع إخوته إلى كتيبة الملازم أول أحمد البلخي، وتولى القيادة بعد مقتل البلخي، وكذلك قتل أشقاؤه الثلاثة.
أسس “لواء شباب السنة” عام 2013، وتلقى الدعم حينها من “غرفة تنسيق الدعم المشتركة” (موك)، التي ضمّت أجهزة استخبارات من 11 دولة عربيّة وأجنبية بقيادة وكالة الاستخبارات المركزيّة الأمريكيّة. وفي 21/8/2016، انضم إلى فصيل “شباب السنة” 16 فصيلاً عسكريّاً بقيادة أحمد العودة.
لدى العودة سجل حافلٌ بالتحولات، فقد قاتل قوات النظام وداعش بآن واحد، وتلقى دعم غرفة عمليات “الموك” ومقرها الأردن وتلقى الدعم من الإمارات بحكم صلة القرابة التي تربطه برجل الأعمال السوريّ المقيم هناك خالد المحاميد، وضابط مخابرات إماراتي في إطار غرفة “الموك” بحسب تقارير إعلاميّة. وتوقف الدعم مع نهاية 2017، وتولت روسيا تمويله بحسب مصدر مُقرب من العودة، لكنه التمويل تراجع بالتدريج.
في 2018 بدأت قوات سلطة دمشق حملة عسكريّة لاستعادة السيطرة على الجنوب تزامنت مع اتفاق تسوية مع روسيا، لتسليم السلاح الثقيل وتسوية أوضاع المعتقلين، بحسب المصدر ذاته، وبات حينها العودة قائد ما يُعرف بـ”اللواء الثامن” الذي يتبع تنظيميّاً الجيش النظاميّ السوريّ، تم تبرير اتفاق التسوية لتجنيب أهالي المحافظة حالة النزوح القسريّ والمعارك، والغالب أنّ ذلك جاء بعد عبرة ما جرى في ريف دمشق والغوطة في آذار العام نفسه.
انضم اللواء الثامن إلى لتشكيل “الفيلق الخامس” التابع لشعبة الأمن العسكريّ بنهاية عام 2020. ولكنه بقي مستقلاً عن قوات النظام، وبات الحليف المحليّ الأبرز لروسيا في الجنوب السوري. وفي عام 2020، أجرى العودة عرضاً عسكريّاً في المدرج الرومانيّ بمدينة بصرى الشام بحضور روسيّ، رُفع خلاله علم النظام، ثم خرج عناصره لاحقاً في مظاهرات مناهضة لبشار الأسد.
الفترة التي تلت لم تكن هادئة تماماً، إذ شهدت البلدات الجنوبيّة اشتباكات متفرقة ومتقطعة في ريف درعا سواء بين عناصر الجيش النظاميّ والأمن العسكريّ، أو بين بعض المجموعات المتمردة المحليّة وقوات النظام، وكان العودة في تلك الفترة يتنقل بين درعا والأردن، حيث تقيم عائلته، فهو متزوج من اثنتين وأب لستة أولاد وابنتين. لكن اسمه برز مجدداً بمشاركة فصيله في حملات ضد خلايا داعش أسفرت إحداها عن مقتل متزعم داعش المدعو أبو الحسن الهاشمي القرشيّ في مدينة جاسم في 15/11/2022.
أول من دخل دمشق
مع بداية عملية “ردع العدوان” التي قادتها هيئة تحرير الشام، المدعومة تركيّاً، ضد النظام السوريّ في 27/11/2024 بدأت المجموعات في الجنوب تتحرك واستولت على مواقع حكوميّة ومقار أمنيّة وعسكريّة. وفي 6/12/2024، تشكلت “غرفة عمليات الجنوب” التي ضمّت مجموعات مسلحة من درعا والسويداء والقنيطرة، وبدأت هذه القوى زحفها باتجاه العاصمة.
قبل السادسة صباحاً الأحد الثامن من كانون الأول كان العودة ورفاقه أول قوى المعارضة التي تطأ أقدامها ساحة الأمويين، ليسمع السوريون نبأ سقوط نظام الأسد بعد أقل من نصف ساعة. بدأ عناصر المجموعات بالتمركز حول بعض المرافق الحيويّة الرئيسيّة للعاصمة، لكن لم تمضِ ساعات حتى بدأوا يعودون أدراجهم جنوباً بتوجيهات من قائدهم.
والتقى العودة بعد يومين من سقوط الأسد، مع قائد إدارة العمليات أحمد الشرع، لكنه لم يشارك بعد ذلك في الاجتماع الذي ترأسه الأخير في كانون الأول الماضي، الذي أعلن فيه انضواء المجموعات تحت مظلة وزارة الدفاع في 25/1/2025، ولم يحضر مؤتمر النصر في 29/1/2025، وحضر نائبه.
كان أحمد العودة يحظى بدعمٍ قوي من الإمارات، لدرجة أنّ مراقبين شبهوه باللواء الليبيّ خليفة حفتر، كقائدٍ يمكنه تأسيس كيان شبه مستقل بحال ضعف حكومة دمشق، وفي صورة استعراضيّة نظم العودة عرضاً عسكريّا كبيراً بمشاركة نحو سبعة آلاف مقاتل في درعا، الأمر الذي وصف بأنّه رسالة واضحة بأنّه ليس في وارد التخلي عن قوته ونفوذه بسهولة. ما يهدد بانقساماتٍ عميقةٍ تهدد وحدة البلاد، ما لم يتم التوصل إلى تفاهم حول دور العودة وقواته في المرحلة المقبلة.
يُعرف “العودة” بأنّه صاحب فكر وقوي الشخصية، ولديه القدرة على التأثير بمن حوله، وحامت حوله التكهنات نظراً لتحصنه بتحالفات إقليميّة، ليكون عقبة في أولى المتغيرات في سوريا، ولذلك كان لافتاً “السلاسة” التي انسحبت بها مجموعاته من دمشق إلى الجنوب، ما أكّد وجود ترتيبات دوليّة تتجاوز كل المجموعات في سوريا. كما أكّد محدوديّة الدور المسند للعودة في هذه المرحلة، وينحصر بدرعا والجنوب ولذلك كان يرجح أنّ العودة ومجموعته متمسكون بإدارة درعا وغير راضين عن تشكيلات الجيش السوريّ الجديد والترفيعات التي تجاهلت قيادات مجموعات الجنوب والجيش الحر والضباط المنشقين، ويبدو أن سلطات دمشق تعاطت بحذر مع ملف درعا خشية زيادة الملفات العالقة وبخاصةٍ مع حساسيّة الجبهة الجنوبيّة المحاذية لإسرائيل.
في مجمل المتغيّرات يكون الحدث العسكريّ هو ما يظهر على المسرح، فيما تشهد الكواليس حراكاً سياسيّاً وتوافقات وصفقات، بل إنّ السياسيّ يلعب دور الملقن ويقود الأحداث على المسرح. وما حصل في درعا ليس استثناءً من طابع المتغيرات نظراً لتعقد علاقات أحمد العودة، وأهميته، والانهيار المتسارع لقوته وصولاً لحلّ اللواء وتزامن ذلك مع زيارة رئيس حكومة دمشق المؤقتة إلى الإمارات العربيّة، وبالمثل تزامنت زيارته إلى تركيا مع تطبيقات الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطيّة فيما يتصل بوضع حيي الأشرفية والشيخ مقصود بمدينة حلب وكذلك سد تشرين.