في قلب قرية تل طال، حيث لا تزال آثار الخراب تروي فصول المأساة التي حلت بها، وقف أبناء القرية يتأملون أطلال كنيستهم التي كانت يوماً ما تحتضن صلواتهم وأعيادهم وأفراحهم، فوق هذا الركام، قرروا أن يرفعوا صليبهم من جديد، وأن يعيدوا الحياة إلى برج الجرس، وكأنهم يعلنون في وجه الزمن: “نحن هنا.. ولن نغادر”.
حين عبر الآلاف من الآشوريين نحو سوريا في ثلاثينات القرن الماضي بعد مذبحة سيمل التي وقعت في العراق، كانوا يحملون في قلوبهم وطناً اقتلعوا منه قسراً، وذكريات عن أرض أجدادهم التي اضطروا إلى مغادرتها هرباً من المجازر. وزعتهم عصبة الأمم المتحدة على ضفاف الخابور، فصار هذا الوادي الممتد بين الحسكة، وتل تمر موطناً جديداً لهم، نقشوا فوق تراب 36 قرية، هويتهم وأعادوا بناء حياتهم من جديد.
لم يكن بناء البيوت أولوية، بل كانت الكنائس أول ما شيدوه، وكأنهم أرادوا أن يؤسسوا لجذورهم الروحية قبل أن تمتد جذورهم في الأرض. كانت كنيسة تل طال واحدة من تلك الشواهد الحية على إيمان شعبٍ لم ينكسر، لكنها اليوم مجرد أنقاض، بعدما مرت عليها جحافل الظلام في ليلة 23 شباط 2015.
اجتياح مرتزقة داعش.. ليلٌ طويل من الموت والدمار
وتسللت مرتزقة داعش تحت جنح الظلام إلى قرى الخابور، ليكتبوا واحدة من أحلك الصفحات في تاريخ المنطقة، قرى بأكملها أحرقت، وأكثر من 250 آشورياً خُطفوا، فيما دُمرت الكنائس وسُويت بالأرض، لم تكن الجريمة مجرد تخريب لمبانٍ حجرية، بل محاولة لطمس الذاكرة وإلغاء وجود شعبٍ بأكمله.
ويتذكر “إلياس عنتر“، رئيس مجلس الشعب الآشوري في الجزيرة، الذي اقترب من عامه الثمانين، كيف أنهم بنوا الكنيسة وطوروها وجاءت مرتزقة داعش وفجرتها: “كانت الكنيسة أول ما شيدناه هنا، إذ بدأت كمنزل قديم استخدمناه للعبادة، ومع مرور الزمن قمنا بتطويرها شيئاً فشيئاً، حتى تمكنا في التسعينات من بنائها بشكل حديث وجميل”.
وأضاف: “لم تكن الكنيسة مجرد مبنى، بل كانت جزءاً من هويتنا ورمزاً لتاريخنا”. لكن في 23 شباط 2015، لم تحتج المرتزقة سوى ليلة واحدة لتمحو هذا الإرث العريق. اجتاح داعش مناطق حوض الخابور وريف تل تمر، مستهدفاً الكنائس ودور العبادة، ولم يكتفِ بتدميرها، بل تفاخر بذلك، ففجر ثماني كنائس وعدّها “هدية للشعب الآشوري في مناسبة العيد”.
وكانت كنيسة “تل طال” واحدة من تلك الكنائس التي طالها الخراب، حيث تحولت جدرانها إلى ركام، وفقدت معالمها، واندثر تاريخها الذي امتد لعقود.
دموع على أنقاض الكنيسة
وحين عاد سكان “تل طال” بعد تحريرها بثلاثة أشهر، لم يكن المشهد سهلاً، كان الركام في كل مكان، وجدران الكنيسة التي كانت يوماً تحتضن المؤمنين، قد تحولت إلى أنقاض وأجزاء متناثرة، على تلك الأطلال، جلس كبار السن وشباب القرية، والدموع في عيونهم والذهول يخيم على وجوههم.
“لم نتمالك أنفسنا، كأن الزمن توقف لحظة رأينا كنيستنا مدمرة، هنا تعمّد أطفالنا، وهنا كانت أجراس الأعياد تدق، كيف يمكن لهذا المكان أن يختفي في لحظة؟” هكذا وصف عنتر شعور الأهالي لحظة رؤيتهم ما حل بكنيستهم.
برج الجرس ينهض مجدداً.. صوت الصمود يتحدى الصمت
ولكن إرادة الحياة كانت أقوى من الحزن، فبعد سنوات من الألم، قرر أبناء تل طال أن يعيدوا رفع صليبهم من جديد، وأن يعيدوا بناء برج الجرس ليظل صوته يرنّ في الأفق، شاهداً على صمودهم، وتبرع أبناء القرية المغتربون لدعم المشروع، وبدأت أيادي أهلها تعيد بناء ما تهدّم، وكأنهم يحيون ذاكرتهم من بين الركام.
وقال عنتر: “إن إعادة بناء برج الكنيسة، ورفع الصليب هي رسالة الصمود والبقاء لأبناء قرية تل طال وأبناء الخابور، والتشبث بأرضهم”، مؤكداً أن شعبهم يحافظ اليوم على قراه وتاريخه وثقافته.
إعادة الحياة إلى القرى الآشورية.. طريق طويل من الأمل
وليست “تل طال” وحدها التي تعرضت للدمار، فكل القرى الآشورية في الخابور تحمل ندوب تلك الليلة المشؤومة. بعض القرى هجّرت تماماً، وأخرى عاد إليها قلة ممن رفضوا أن تكون تلك النهاية، في تل طال، حيث لا تزال آثار الخراب بادية، يعمل الأهالي على إعادة إحياء قريتهم، بيتاً بيتاً، وذكرياتهم صلاةً صلاة.
واختتم رئيس مجلس الشعب الآشوري في الجزيرة “إلياس عنتر”: “نؤكد على بقائنا في قرانا، فحضارتنا وتاريخنا وثقافتنا ستبقى على هذه الأرض وفي هذه القرى، وما نقوم به اليوم هو عبارة عن إعادة الحياة للقرى التي أخليت ودمرت بسبب مرتزقة داعش”.
وكالة هاوار للأنباء