حمزة حرب
بعد سلسلة من التصعيد الميداني ورسائل النار التي وجهتها إسرائيل لدولة الاحتلال التركي التي توغلت وتغولت في الساحة السوريّة فُرِض عليها لعنة جيوسياسية تتهافت عليها دول إقليمية لتحقيق مصالح استراتيجية قد تلتقي أحياناً وتتقاطع وتتعارض أحياناً أخرى ومن جملة هذه التناقضات تلك الحاصلة اليوم بين الحليفين الاستراتيجيين دولة الاحتلال التركي وإسرائيل فعلى ما يبدو تعارضت مساعي التمدد على الساحة السوريّة بعد سقوط نظام الأسد وانحسار النفوذ الإيراني وباتت استراتيجية ملء الفراغ هي سيدة الموقف على الساحة السوريّة.
بعد تصعيدٍ كبير بين أنقرة وتل أبيب على الساحة السوريّة برزت الولايات المتحدة الأمريكية كوسيطٍ مُحتمل بين الجانبين في محاولة لتخفيف حدة التوترات بينهما، خاصةً في ضوء التمدد العسكري لدولة الاحتلال التركي في الأراضي السوريّة وتأثير ذلك على مصالح إسرائيل الساعية هي الأخرى إلى تحقيق مشاريعها في المنطقة حيث تقود هذه الجهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يسعى لتسوية الصراعات الإقليمية عبر دبلوماسية نشطة، والتي لم تخلُ من التحديات والتساؤلات حول جدوى تأثيرها.
ترامب.. وسيط مُحتمل
في إطار هذه التطورات، وفي وقتٍ حساس للغاية، طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه كوسيطٍ بين إسرائيل وتركيا خلال اجتماع له مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض معتبراً ان لديه علاقات جيدة جداً مع رئيس النظام التركي أردوغان.
رغبة ترامب في استخدام علاقاته الشخصية مع رئيس النظام التركي أردوغان جاءت كأداة دبلوماسية لحلِّ الخلافات بين أنقرة وتل أبيب في سوريا وعلى الرغم من أن ترامب لم يُحدد بالتفصيل كيف ستتم الوساطة بين الطرفين، إلا أن توقيت هذه الخطوة كان ذا دلالة كبيرة، في وقتٍ كانت فيه العلاقات بين تركيا وإسرائيل في سوريا على حافة التصعيد.
فالتصعيد على الأرض في سوريا بعد أن نفذ الجيش الإسرائيلي عدة ضربات عسكرية في الأراضي السوريّة، مستهدفاً مواقع عسكرية يُعتقد أن تركيا تخطط للتمركز فيها بناءً على تفاهمات مع الحكومة السوريّة الانتقالية كانت بمثابة رسائل تحذيرية تهدف إلى منع أي تمركز عسكري تركي قد يُهدد حرية العمل الجوي الإسرائيلي في سوريا.
على الجانب الآخر، لم يصدر عن نظام أردوغان أي تعليق رسمي حول الوساطة الأمريكية، إلا أن وسائل الإعلام المُقربة من السلطات كانت تحمل نبرة إيجابية إزاء هذه الوساطة، معتبرةً أن نتنياهو لم يحصل على ما يريد من الرئيس الأمريكي وقد ركزت هذه الوسائل على العلاقة القوية بين أردوغان وترامب، مُعرِبةً عن أملها في أن تُسهم هذه العلاقة في إحداث توافق أكبر في قضايا إقليمية أخرى، ومنها سوريا.
بينما إسرائيل وبحسب مصادر عبريّة فإنها تنظر الى هذه الوساطة على أنها محاولة لحل مشكلة هامشية في جدول أعمال ترامب المزدحم ففي حين اعتبرت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية أن العلاقات بين تركيا وإسرائيل في سوريا كانت جزءًا صغيرًا من مناقشات أوسع بين ترامب ونتنياهو، فإن صُحفاً أخرى، مثل “يديعوت أحرنوت”، رأت أن نتنياهو “عاد خالي الوفاض” من البيت الأبيض. لكن؛ ما يزيد من تعقيد الوضع هو أن إسرائيل ترى في وجود تركيا في سوريا تهديدًا كبيرًا فقد أكدت إسرائيل مرارًا على أنها ستمنع أي تمركز عسكري تركي في سوريا قد يؤثر على قدرتها على تنفيذ عمليات عسكرية في المنطقة هذا الموقف الإسرائيلي يتماشى مع قلقها من زيادة النفوذ للتنظيمات الراديكالية والمتشددة التي ترعاها أنقرة في سوريا ما قد يُشكّل تهديداً لما تُسميه أمنها القومي.
بينما تبقى وساطة واشنطن فعالة كونها تملك تأثيرًا كبيرًا على سياسيات النظام التركي والإسرائيلي، اللذان لا يمكنهما تجاهل النفوذ الأمريكي بشكلٍ كامل ومع ذلك، فإن التحديات التي تواجه هذه الوساطة تتمثل في اختلاف المصالح بين تركيا وإسرائيل، حيث يسعى كل طرف لتحقيق أهدافه الاستراتيجية في تحقيق مخططاته في سوريا، مما يجعل التوصّل إلى تسوية أمر صعب.
ترامب وسياسة “السلام” في الشرق الأوسط
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يحاول مجددًا لعب دور “صانع السلام”، وهو جزء من إرثه الرئاسي الذي يهدف إلى تحقيق تسويات دبلوماسية في الشرق الأوسط ومع ذلك، يظل السؤال مفتوحًا حول ما إذا كان ترامب سيوفق في تحقيق هذا الهدف، خاصةً في ظل انشغاله بعدد من الملفات الأخرى مثل المفاوضات مع إيران والأزمة في غزة.
فلو تم الربط بين أولويات ترامب وما تتحدث عنه تل أبيب في توصيفها للوساطة بأنها هامشية على جدول أعمال ترامب فيبقى احتمال عدم تحقيق نتائج ملموسة في الوقت القريب مطروحاً على الطاولة لأن هناك شكوكًا بشأن ما إذا كانت الإدارة الأمريكية ستخصص وقتًا كافيًا لتطوير هذه الوساطة، في ظل الأولويات الأخرى التي تُهيمن على السياسة الأمريكية في المنطقة.
فقبل ذلك وتحديداً منذ بداية عام 2018، بدأت الإدارة الأمريكية في طرح مبادرات دبلوماسية لتخفيف حدة التصعيد بين تركيا وإسرائيل، الدولتان الإقليميتان اللتان تتداخل مصالحهما في سوريا ليكون التوتر اليوم هو استمرار لنهج واشنطن في سوريا، بعد أن كانت إدارة الرئيس السابق جو بايدن قد اختتمت فترة ولايتها بتوجهاتٍ مبهمة إزاء دمشق وتحدياتها الإقليمية.
ففي كانون الأول 2024، وفي فترة ما بين الإدارات، سجلت الولايات المتحدة سابقة جديدة في تأرجح موقفها تجاه سوريا بعد انهيار النظام السوري وعلى الرغم من أن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد تبدو أقرب إلى أقوالٍ جزافية، فإن اجتماعه مع رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يعكس حجم التوتر الذي يمكن أن يرافق أية تصعيدات جديدة في المنطقة. فترامب الذي يعرف جيدًا تعقيدات الملف السوري، سعى لتحقيق توازن بين الأطراف المعنية، حيث يراقب عن كثب مدى تأثير التواجد العسكري التركي في سوريا على الأمن الإسرائيلي. في هذا السياق، تشعر إسرائيل بقلقٍ متزايد حيال التقارب التركي مع إيران، خاصةً مع وجود ميليشيات تابعة لطهران على الأرض السوريّة، مما يخلق بيئة يمكن أن تهدد الأمن الإسرائيلي بشكلٍ مباشر.
لاسيما إن تل أبيب لطالما اعتبرت سوريا تحديًا أمنيًا كبيرًا على حدودها الشمالية، في ظل وجود نفوذ إيراني كبير على الساحة، ففي حين تسعى تل أبيب للحفاظ على توازن القوى في المنطقة، فإن تحركات دولة الاحتلال التركي لم تُعزل عن سياق الصراع الإقليمي الأكبر، حيث تُعتبر سوريا نقطة ارتكاز لمنافسات واسعة بين تل أبيب وأنقرة اللذان يمتلكان مشروعان توسعيان قد يختلف بالتوجهات والأدوات فقط.
ففي خِضم هذا الصراع تبقى سوريا وحكومتها الانتقالية المُثقلة بملفاتٍ مُستعصية على رأسها الحظوة بالاعتراف والانفتاح الإقليمي والعربي والدولي وهي منهكة من ثِقل ما تشكله المجموعات المرتزقة متعددة الولاءات والتوجهات وهو ما يُعرقل آلية بناء الدولة الجديدة حيث تستمر الولايات المتحدة في تقوية علاقاتها مع حلفائها الإقليميين في السعودية والأردن والكويت، في محاولة لتأطير موقف موحد بشأن سوريا إلى جانب سعيها أيضاً في لعب دور الوساطة بين إسرائيل وتركيا.
هذا التوجه يُظهر تغيراً في السياسات الغربية تجاه الرئيس الانتقالي السوري الجديد أحمد الشرع، وتجنب تبنّي النظرة التقليدية التي كانت ترى فيه مجرد “سليل للقاعدة والإرهاب” ويبدو أن هذه الدول تلعب دورًا مهمًا في تعديل الموقف الأمريكي، في وقتٍ تأخذ فيه الإدارة الأمريكية في الاعتبار التغيرات الاستراتيجية التي طرأت على الأرض في سوريا.
خيارات سوريا.. النأي بنفسها
وفي خِضم هذه المعطيات فيرى متابعون للشأن السوري إن البلاد اليوم منهكة وغير قادرة على خلق اصطفافات إقليمية أو دولية وإعادة إنتاج محاور عسكرية أو سياسية بل على العكس تماماً يجب أن تنأى بنفسها عن الاصطفافات فسوريا تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على وحدتها واستقلالها، وهناك عدة خيارات لتخفيف الضغوط الإقليمية.
فبعد سقوط النظام تم قطع أوتار التواصل مع إيران وهو ما قد يساعد في تقليل التوترات مع إسرائيل والدول العربية، ولكن استبدال السلطات الجديدة في دمشق النفوذ الإيراني بالنفوذ التركي هذا ما قد يكون أمراً مرفوضاً لكلا الجانبين العربي والإسرائيلي على السواء.
فالحكومة الانتقالية اليوم في سوريا على الرغم من تناغمها الكبير مع الجانب التركي إلا إن هناك خطوات مهمة تجري على الأرض يمكن البناء عليها بهذا السياق وهو مسار المفاوضات مع الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق وسوريا وقوات سوريا الديمقراطية وهذا ما يجعل من هذا الملف ملف داخلي وشأن داخلي ويقطع على تركيا الطريق أمام التدخّل بهذا الملف.
كما إن الجانب الروسي الذي يُثير حفيظة واشنطن تتعامل الحكومة الانتقالية مع هذا الملف ببراغماتية عالية على الرغم من إن الجانب الروسي كان من أبرز الداعمين لنظام الأسد لكن الحكومة الانتقالية قد تسعى لتحسين العلاقات مع الجانب الروسي لعدم الدخول في سياق التنافس الدولي على الساحة السوريّة فهشاشة الواقع لا تحتمل أي اصطفافات بحسب خبراء ومتابعين.
فوسط هذه المعطيات تبقى سياسات تركيا وإسرائيل على الأراضي السوريّة تؤجج المشهد وتفرض وقائعاً معقدة على الأرض لكن حل هذا الملف سيلعب دورًا حاسمًا في مستقبل سوريا ففي حال استمرار التدخّلات العسكرية، فإن أفق الحل السياسي قد يظل بعيدًا، لكن إذا تمكنت الحكومة الانتقالية أو حتى واشنطن التي تقدّم نفسها على إنها وسيط مُحتمل من تبني استراتيجيات توافقية وتخفيف التوترات مع القوى الإقليمية والدولية، فإن ذلك قد يساهم في استقرار البلاد وإعادة بناء وحدتها السياسية والاقتصادية.
فالحكومة المؤقتة وسياساتها المنتهجة في المرحلة القادمة هي من سترسم ملامح الجبهة الداخلية التي ستكون بمثابة أساس بناء الدولة التي ستتمكن من الوقوف في وجه كل المصالح الخارجية وذلك من خلال دعم المصالحة الوطنية وتعزيز الحوار بين أطياف المجتمع السوري والذي يمكن أن يُسهِم في توحيد القوى الداخلية، لكن هذه العملية قد تواجه مقاومة من الأطراف المتطرفة.
لذا؛ فإن البعد الاستراتيجي مطلوب لأن التطرف والراديكالية والتخندق السياسي لن يُساهم في تحسين الوضع الاقتصادي والسياسي والأمني والإقليمي والدولي بالنسبة لسوريا القابعة اليوم تحت مجهر التقييم الدولي الذي يرغب في تخفيف العقوبات والتقليل من اعتماد سوريا على المساعدات الدولية، لكن يجب أن تكون دولة طبيعية في موقعها الإقليمي مستقرة في داخلها وهذا متروك لسياسات الحكومة الانتقالية التي تتحمّل مسؤولية المرحلة وكل ارتداداتها وانعكاساتها.