في الوقت الذي تتطلع فيه سوريا إلى لملمة جراحها واستعادة عافيتها وتأكيد سيادتها بعد سنوات من الحرب والصراع، تمضي تركيا في تعزيز حضور عسكريّ طويل الأمد على أراضٍ سوريّة، لا يقتصر على الشريط الحدوديّ، بل يمتد نحو العمقِ السوريّ، في خطوةٍ تُقرأ باعتبارها مشروعاً استيطانيّاً جديداً يُعيد إلى الأذهانِ خرائط نفوذ ما قبل الدولة الوطنيّة متجاوزةً بذلك الخطوط الحمراء التي تحددها الأعراف الدوليّة وحدود الجوار.
حمزة حرب
التوسع العسكريّ التركيّ، الذي يترافق مع تغييرات ديمغرافيّة وإداريّة في بعض المناطق، لا يشكّل فقط انتهاكاً صارخاً لسيادة سوريا واستقلالها وحسب، بل يهدد بإعادةِ إنتاج واقع من التقسيمِ الفعليّ، وتُزرع بذور نزاعاتٍ طويلةِ الأمد داخل النسيج الوطنيّ السوريّ وحيثما تُقام القواعدُ، تبرُز تبعاتُ الخطرِ من تفكيك السلطة والسيادة، إلى إشعالِ حساسيات قوميّة وطائفيّة، وصولاً إلى إعاقةِ أيّ مشروعٍ جامعِ لإعادةِ بناء البلاد على أسسٍ وطنيّة مستقلة.
أطماعٌ تركيّة على أنقاضِ سوريا
لطالما جرى الحديثُ عن مشاريع مسمومةٍ لدولةِ الاحتلال التركيّ، وتمّ التأكيد مراراً وتكراراً أن ما تقوم به تركيا ليس فقط لأهدافٍ مرحليّة تكتيكيّة تفرضها ضرورة دعم مجموعاتها الإرهابيّة في وجه النظام السابق، وما فعلته دولة الاحتلال اليوم من بناء لقواعد عسكريّة طويلة المدى وبرؤى استراتيجيّة، لا يترك مجالاً للشك بأنّه يندرجُ ضمن سياقات توسعيّة واضحة، تُعيد رسم الجغرافيا السياسيّة للمنطقة لصالحها. وكالعادة على حساب السوريّين ومستقبل دولتهم الذين ما أن لبثوا الاستعداد للملمة شتاتهم ورفع أنقاض دولتهم وتشييد صرحٍ جديد جامعٍ تتعايش فيه شعوب سوريا لتسارع دولة الاحتلال وتبرم الصفقات والمقايضات في ظلِ صمتٍ دوليّ، وترددٍ عربيّ.
لتبقى القواعد التركيّة شاهداً صامتاً على مرحلة جديدة من الاحتلال غير المعلن، تهدد سوريا ليس فقط في حاضرها، بل في وجودها التاريخيّ والجغرافيّ وكيانها السياسيّ، وتفتح الباب أمام صراعِ نفوذٍ توسعيّ جديد مع إسرائيل، فرسائل النار بين تل أبيب وأنقرة لم تكن نابعة عن عداء بين حليفين استراتيجيين إنّما عن تضارب مصالح على الساحة السوريّة.
فقبل سقوط نظام بشار الأسد، كانت سوريا ساحة لتصارع القوى الإقليميّة والدوليّة الساعية لإعادة رسم خريطة نفوذها في المنطقة ومع انكفاء النظام القديم، بدتِ الأراضي السوريّة مساحةً جيوسياسيّة مفتوحة، تتسابق الدول الكبرى والإقليميّة لبسط تأثيرها فيها، لا سيّما دولة الاحتلال التركيّ وإسرائيل، اللتان تتنافسان اليوم في إطار حربِ نفوذٍ غير معلنة، وتشكّل ملامحها مزيجاً من التصعيد السياسيّ والميدانيّ والحسابات الجيوعسكريّة الدقيقة.
وبهذا السياق يؤكد الدكتور محمد اليمني الخبير في العلاقاتِ الدوليّة خلال تصريحاتٍ خاصة لصحيفتنا أنّ “مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد. ومن بين تلك القوى، تركيا، التي تسعى إلى استغلالِ التغييراتِ الحاصلة في سوريا، لتعزيز حضورها العسكريّ والاقتصاديّ والسياسيّ هناك، ولفرض هيمنتها على هذا البلد، وإلحاقه بمحور نفوذها، ما يضعها في مواجهةٍ مباشرةٍ مع إسرائيل، ولا سيما أنّ الأخيرة ترى في سياساتِ أنقرة تهديداً مباشراً لأمنها ومصالحها وخططها في الجنوبِ السوريّ”.
فدولةُ الاحتلال ومنذ بداية النزاع السوريّ، تسعى جاهدةً إلى ترسيخ موطئ قدم دائم في البلاد، انطلاقاً من شمال سوريا ووصولاً إلى مناطق أكثر عمقاً في الداخل السوريّ. وتستخدمُ أسطوانةً مشروخة تسوقها للعالم أجمع لتبرير احتلالها وهي ذريعة “الأمن القوميّ” و”حماية الحدود”، بينما تكشف التحركات الأخيرة عن توجّه استراتيجيّ أوسع يهدف إلى جعل النفوذ التركيّ جزءاً من معادلة الحكم الجديدة في دمشق، لا سيّما مع صعود رئيس المرحلة الانتقالية لسوريا أحمد الشرع، الذي ترى فيه دولة الاحتلال التركيّ شريكاً محتملاً.
وفيما طالبت خارجيّة دولة الاحتلال التركيّ الخميس 3/4/2025، إسرائيل بالانسحاب من الأراضي السورية، وذلك بعد اتهام تل أبيب لأنقرة بمحاولة وضع سوريا تحت وصايتها وجعلها محمية تركيّة. قال وزير الخارجية التركيّ هاكان فيدان، الجمعة، إنّ تركيا لا تريد أيّة مواجهة مع إسرائيل داخل الأراضي السوريّة، وفقاً لما أفادته وكالة رويترز. ليرد بالمقابل مسؤول إسرائيليّ رفيع أنّ “إسرائيل لا تتطلع إلى صراع مع تركيا في سوريا”. في المقابل، ترى إسرائيل أنّه لا يمكن استبدالُ النفوذ الإيرانيّ بطابعه العقائديّ الأصوليّ في سوريا بنفوذٍ تركيّ بطابع عقائديّ في البلد ذاته، ومن الممكن أن يكون الخطر أدهى وأمر مع دعم مجموعات متطرفة قد تهدد أمنها القوميّ إذا ما وصلت للجنوب السوريّ، كما أنّ بناء قواعد عسكريّة واستقدام أنظمة دفاعيّة، سيشكّل تهديداً مباشر لأمن إسرائيل القوميّ.
الشرع خيارٌ مُقلق لإسرائيل
لم يتوقفِ الاحتلالُ التركيّ عند المواقف السياسيّة، بل عمد إلى اتخاذِ خطواتٍ ميدانيّةٍ لتعزيز وجوده في سوريا، تشمل نشر أنظمة دفاعيّة وتوسيع قواعده العسكريّة لتمتد نحو وسط البلاد. وهذا التمدد يعتبره الإسرائيليون “استفزازاً مباشراً”، ويشكّل، برأيهم، محاولةً للحد من حريةِ المناورة الجويّة الإسرائيليّة في الأجواء السوريّة، خصوصاً في ظل المعلومات المتزايدة حول نوايا تركيا بإقامة بنيةٍ عسكريّةٍ دائمةٍ هناك.
في قلب هذا التوتر تقف الولايات المتحدة، التي تجد نفسها مضطرةً إلى إدارة لعبة التوازن بين حليفيها تركيا وإسرائيل من جهة، تدعم واشنطن أنقرة في سعيها لبسط نفوذها شمالاً، لكنها من جهة أخرى تمنح تل أبيب الضوء الأخضر للاستمرار في سياساتها جنوباً. وهذا التوازن يخلق واقعاً معقّداً يعكسُ رغبةَ واشنطن في منع أحد الطرفين من السيطرة الكاملة على القرار السوريّ.
الدكتور محمد اليمني يضيف: “يمكن فهم موقف إسرائيل من الشرع، والذي تبنّته منذ اليوم الأول لسقوط النظام في دمشق، وصولاً إلى إعلان موقف صريح ومباشر على لسان كبار مسؤوليها الذين وصفوا رئيس سلطة دمشق بأنه إرهابي وزعيم تنظيم إرهابي ويسمح ذلك النهج لإسرائيل، بمواصلة استراتيجياتها في الجنوب السوريّ”.
الساحل لم يكن بمعزل عن التنافس الإقليميّ فإسرائيل تعمل على تعزيز علاقاتها مع روسيا، في محاولة لدفع موسكو نحو تثبيت حضورها العسكريّ في مناطق الساحلِ السوريّ، كوسيلةٍ لموازنةِ تغوّل وتوغلِ الاحتلال التركيّ الذي أراد أن يستثمر في الساحلِ بما يعزز حضوره التوسعيّ على الرقعةِ الجغرافيّة السوريّة وهو ما تحدثت عنه مصادر صحفيّة عبريّة مؤكّدةً أنّ نتنياهو أوفد سكرتيره العسكريّ إلى موسكو بهدف التنسيق مع الروس، لضمان استمرار قواعدهم في سوريا كقوةٍ رادعةٍ للنفوذ التركيّ.
ترى إسرائيل في النفوذِ الروسيّ خياراً “أقلَّ خطورةً” مقارنةً بالتمددِ التركيّ الذي يعتبر مظلةً للمجموعات المتطرفة ذات الطابع الإرهابيّ ولذلك تسعى إلى ترسيخ هذا التفاهم، حتى وإن عنى ذلك إعطاء موسكو اليد العليا في بعض المناطق السوريّةِ الحسّاسةِ، ومعلوم أنّ القوات الروسيّة ومنظومات الدفاع الجويّ الروسيّة على الأراضي السوريّة لم تعترض مرة الطائرات الإسرائيليّة المغيرة، حتى عندما تسببت طائرات إسرائيليّة بإسقاط طائرة روسيّة من طراز إل ـ 20 في 17/9/2018، وقُتل 15 شخصاً كانوا على متنها، ومضت الحادثة بمجرد تحميل إسرائيل المسؤوليّة دون أيّ إجراءات إضافيّة. بل خفف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاحقاً من حدة التوتر، ووصف أنّ إسقاط الطائرة مرده إلى “سلسلة من الظروف المأساويّة القاتلة”.
واشنطن تراقب عن كثب
الموقفُ الأمريكيّ لا زال متحفظاً تجاه النظام الجديد في سوريا إذ إنّ واشنطن لم تبادر إلى رفع العقوبات عنه بعد سقوط الأسد، واكتفت بإعفاءات جزئية كما اعتبرت “النظام الجديد إرهابي”، وهو توصيف يتقاطع مع الرؤية الإسرائيلية تماماً وهو ما يفسر عدم ممانعة واشنطن إبقاء روسيا قواعد لها في سوريا ما اعتبر إشارة الى إمكانية التفاهم بين الجانبين وعدم موثوقية الطرفين بالشرع والبرنامج الذي يقدمه لقيادة البلد.
إلا أنّه ورغم تلك المؤشرات، لا يمكن الجزم بوجودِ قرارٍ أمريكيّ واضح المعالم، فالمواقف الأمريكيّة كثيراً ما تتّسم بالتناقض أو الغموض، حتى في القضايا الحسّاسة لكن الثابت الوحيد هو أن واشنطن ستنحاز بالمطلق لإسرائيل، لكنها لا تقطع شعرة معاوية مع تركيا، حليفها في “الناتو” وشريكها في ملفات إقليميّة أخرى لذا ستلعب دور الوسيط الميال لتل أبيب ما قد يكون من أكبر العثرات التي ستعترض طريق أنقرة في مشروعها التوسعيّ على الساحة السوريّة.
كما أنّ استمرارَ الوجود العسكريّ للمحتل التركيّ سيجعلُ سوريا ساحة دائمة لصراع المصالح الإقليميّة، وخصوصاً مع إسرائيل، وإيران، وحتى روسيا وسيحرم دمشق من فرصة استعادة استقلالية قرارها السياسيّ، إذ ستبقى رهينة توازنات عسكريّة تفرضها قوى خارجيّة على الأرض.
فأيّ تموضعٍ عسكريّ للنظام التركيّ في سوريا، خارج إطار التفاهم الوطنيّ السوري الشامل، لن يُنظر إليه داخليّاً إلا كاحتلالٍ، ما يهدّد مستقبلَ البلادِ ككيان سياسيّ موحّد، ويقود إلى موجات جديدة من التوتر والصراع، تُطيل عمر الأزمة السوريّة بدل أن تسهم في حلّها.
تأتي هذه المعطيات في وقتٍ تستميت فيه أنقرة لتثبيت قواعد دائمة لها، وهو ما يعد انتهاكاً واضحاً لسيادةِ الدولة السوريّة الجديدة، ويخلقُ مناطق خارجة عن سلطة المركز، لتتحوّل مع الوقت إلى “جزر أمنيّة” خاضعة لحكم الأمر الواقع للاحتلالِ التركيّ، ما يُضعف قدرة أيّ حكومة سوريّة على بسط سلطتها، ويقوّض فكرة الدولة الوطنيّة الموحدة ويمهّد لتقسيم فعلي للأرض السوريّة سيما وإن سياسة المحتل التركيّ ترتكز على أدوات خبيثة أبرزها التغيير الديمغرافيّ.
هذا وأضاف الدكتور اليمني أنّ “واشنطن تدعم أنقرة في محاولاتها بسط نفوذها في الشمال السوريّ، وقدر معتدّ به من الوسط يشملُ المناطق المتاخمة للحدودِ الجنوبيّةِ، من دون الامتداد كثيراً نحو مناطق الجنوب، فهي تراعي أيضاً مصالح إسرائيل واستراتيجياتها، حيث لم تكن الأخيرة لتتوغّل من دون رضى البيت الأبيض ومصادقته لكن على ما يبدو هذا لم يرقْ لتل أبيب”.
ففي ظل التهديدات المتزايدة التي تواجه سوريا من مشاريع التقسيم والنفوذ الأجنبيّ، تبرز قوات سوريا الديمقراطيّة ومجلس سوريا الديمقراطيّة والإدارة الذاتيّة من المكوناتِ العسكريّة والسياسيّة والإداريّة التي يمكن أن تؤدي دوراً محوريّاً في صونِ وحدة البلاد ومواجهة محاولات العبث بجغرافيتها.
الاتفاق مع قسد خيارٌ وطنيّ يُفشل المخططات الخارجيّة
وعلى عكس الاتفاقات المشبوهة بين الحكومة الجديدة والاحتلال التركيّ برز اتفاق هام وصف بالتاريخيّ بين سلطات دمشق وقوات سوريا الديمقراطيّة التي تضم في صفوفها خليطاً من الكرد والعرب والسريان والشعوب الأخرى، والتي أثبتت قدرتها على بسط الأمن في مناطق واسعة في شمال وشرق البلاد، ونجحت في كبح جماح التنظيمات الإرهابيّة خاصة مرتزقة “داعش”، وكانت رأس الحربة في التحالف الدوليّ الذي أطاح بالخلافة المزعومة كما حافظت على درجة من التماسك والاستقرار داخل مناطق سيطرتها، وهو أمر نادر في المشهد السوريّ المتشظي.
فدمج قسد في مشروع سوريا الجديدة، على قاعدة التشاركيّة السياسيّة واللامركزية الإداريّة، من شأنه أن يسهم في إعادة توحيد سوريا، من خلال تطمين الأطراف السوريّة والإقليميّة وحتى الدوليّة بأن هناك برنامج وطنيّ يجري العمل عليه وأن هذا التحالف يُضعف مبررات التدخلات الخارجيّة، وخصوصاً الاحتلال التركيّ واطماعه، التي تستند في جزء كبير من روايتها إلى أسطوانة مشروخة تحت عنوان “أمنها القوميّ”.
الأهم أن تحالفاً كهذا يمكن أن يشكّل حاجز صدّ فعّال في وجه مشاريع التقسيم الجغرافي أو السياسيّ التي يُراد فرضها على سوريا كأمر واقع، سواء عبر مناطق النفوذ أو القواعد الأجنبية. فـ”قسد” اليوم، بخبرتها الميدانية وشبكة علاقاتها الدوليّة، قادرة على أن تكون شريكاً فاعلاً في أي مشروع وطنيّ جامع، شرط توفر الإرادة السياسيّة لدى دمشق، والخروج من منطق الإقصاء إلى عقلية الاحتواء والبناء.
تفرض اللحظة السوريّة الحالية تجاوز الحسابات الضيقة، والانفتاح على كلّ القوى التي تملك تأثيراً حقيقيّاً على الأرض، وفي مقدمتها “قسد” فالتحالف معها لا يضمن فقط ضبط الحدود الشرقية والشمالية، بل يشكّل خطوة استراتيجية باتجاه إعادة رسم سوريا جديدة، التي لا تُدار بالقوة، بل بالشراكة والتعدديّة.