دجوار أحمد آغا
تحدثنا في الجزء الأول عن أهمية وضرورة وجود القائد المفكّر في تاريخ نضال وكفاح الشعوب التحرري، ومن ضمنها الشعب الكردي، وبينّا أن غياب قائد مفكر يكون سببا رئيسياً لفشل الثورات والانتفاضات الكردية، رغم قوتها وتوسع انتشارها في الكثير من المناطق، وإن القبض على قائد الثورة أو إعدامه تنتهي الثورة وتزول.
في هذا الجزء سوف نتحدث عن مسيرة القائد عبد الله أوجلان منذ الولادة وصولاً إلى مرحلة تأسيس حزب العمال الكردستاني، وسوف نستعرض الفترة الشبابية ومدى تأثر القائد عبد الله أوجلان، باليسار الثوري في تركيا، ومن ثم الاعتقال الأول، وبعدها الفترة الأيديولوجية التي تم فيها التحضير لانطلاقة حركة حرية كردستان، من خلال الرد على عملية اغتيال الشهيد الكبير حقي قرار في 18 أيار 1977.
شخصية القائد عبد الله أوجلان
لعل أبرز ما يميز شخصية القائد أوجلان، أنها استثنائية، مثلاً القائد عبد الله أوجلان، شخصية تتميز بحياء كبير، لكن هذا الحياء يحتوي على الجرأة أيضاً، أي أنه لديه الخوف والجرأة، وهذا الأمر نادر الحدوث، وهو يتحدث عن هذا الأمر من خلال صراعه مع الثعابين منذ طفولته، فيقول: “لأنني أخاف من الثعبان كثيراً، كنتُ أصارعه كثيراً أيضاً، وأخاف من عائلتي كثيراً، ورغم ذلك كنت أتشاجر معها، أي إنني إنسان أعيش بخوف وشكوك عميقة، وهذا الوضع يتكرر مع الدين، وجهنم والخوف من الله، فرغم خوفي من الله، أتوجه بجرأة كبيرة إلى المادية التاريخية والديالكتيك، وهذا أيضاً متداخل جداً”.
كل شيء في حياة القائد له معنى، وهو مرتبط بنشأة الشعب الكردي، الذي يشبه نشأته، ففي طفولته كان هناك التمرد ونزعة القيادة وقوة الشخصية، شخصية قيادية منذ الصغر، متمردة على الظروف القاسية والصعبة، التي يعيشها الشعب الكردي، لكنه بالوقت نفسه شخص متواضع جداً وعادل ويحترم الجهد المبذول كثيراً، صبور جداً لدرجة أنه يستطيع أن يحفر بئراً بالإبرة، شخصية تعرف وتُجيد ما تقوم به، وتتحكّم بنفسها، وتستطيع بكل سهولة أن تراجع أعمالها وتصرفاتها.
كما كانت مرحلة الطفولة ذات معالم واضحة في مسيرة حياته، فإن مرحلة الشباب تُعدّ من أهم وأبرز المراحل التي تكونت فيها شخصيته، وتبلور وعيه السياسي وتوجهه من الرؤية الدينية، التي أثرت عليه في صغره، إلى الماركسية اللينينية التي أسس عليها، وبنى حزب العمال الكردستاني وفق مبادئها.
بعد إنهاء دراسة الابتدائية في قرية “جبين” الأرمنية، أكمل دراسته الإعدادية في بلدة “نزيب”، حيث كان يُقيم في منزل أخته، بعد إنهاء الإعدادية توجّه إلى الثانوية الصناعية، حيث تخرج من ثانوية المساحة المهنية، والتي كانت ذات توجه ديني واضح، وفي السنة الأخيرة منها تعرف على الماركسية، عندما قرأ كتاب ألف باء الاشتراكية في العام 1968، وهمس في نفسه، “لقد خسر محمد، وانتصر ماركس”، عمل خلال عام 1970 موظف فنّي في دائرة المساحة لدى بلدية آمد، لم يقبل الرشوة التي كانت متفشية والفساد الكبير هناك، ولم يتحمل الوضع السائد مما دفعه إلى السفر إلى إسطنبول للتسجيل في كلية الحقوق.
أفكار اليسار الثوري والاعتقال الأول
عام 1971 انتقل القائد عبد الله أوجلان، من كلية الحقوق في جامعة إسطنبول، التي بقي فيها فترة قصيرة، إلى أنقرة ليُسجّل في كلية العلوم السياسية، وهناك تعرف بشكل مباشر على الأفكار الثورية والاشتراكية، وتعرّف على رفاق دربه الأوائل أمثال حقي قرار، وكمال بير، ومظلوم دوغان، ومحمد خيري دورموش، وغيرهم، حيث شارك في الكثير من النشاطات الثورية، وأصبح هو وحقي قرار، من قادة المراكز الثقافية لثوار الشرق.
بعد انقلاب 12 آذار 1971، وإعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وارتكاب مجزرة “قزل دره” بتاريخ 30 آذار 1972 بحق أحد أبرز قادة اليسار الثوري “ماهر جايان”، وتسعة من رفاقه، نُظمت العديد من الفعاليات الشبابية والطلابية، والمظاهرات والمسيرات، وشارك فيها بتوزيع منشورات ثورية، حيث تم اعتقال الكثير من الشبان الثوريين ومن ضمنهم القائد عبد الله أوجلان، في السابع من نيسان عام 1972، وسُجن سبعة أشهر في سجن “ماماك”، خلال فترة سجنه، تم إعدام ثلاثة من قادة اليسار الثوري، الذين أثروا فيه كثيراً، وهم (دنيز كزميش، وحسين إينان، ويوسف أصلان)، وذلك في السادس من أيار، ثم اعتقلت السلطات التركية، قائد آخر للشبيبة الثورية، إبراهيم قايباق قايا، والذي تم قتله تحت التعذيب في سجن “آمد”.
بعد خروجه من السجن، توجه إلى المنزل الذي يقطن فيه كمال بير، وحقي قرار، وراجع معهم، كل ما حدث في الفترة السابقة وبدأ بحثه عن الحل للخروج من هذا الوضع المأساوي الذي يعيشه الشعب، أول اجتماعاته كانت مع مجموعة من خمسة أشخاص خلال نوروز 1973 عند سد “جوبوك” في أنقرة، شرح لرفاقه أهمية بناء تنظيم في مواجهة ما تفعله الدولة التركية، لكنه لم يحصل سوى على موافقة رفيقه، “علي حيدر قايتان” “فؤاد”، الذي أبدى استعداه لمرافقته في هذا الأمر.
لكنه لم ييأس، بل بدأ بالإعداد لأطروحة “كردستان مستعمرة”، مع انضمام جميل بايك “جمعة”، الذي أقنعه كمال بير، فيما قام حقي قرار، بإقناع دوران كالكان “عباس”، للانضمام إلى المجموعة، ازداد النشاط الثوري للمجموعة التي عقدت اجتماعها الثاني عام 1974 في “توزلوجاير”، بحضور القائد وأعضاء المجموعة الأولى الى جانب (مظلوم دوغان، ومحمد خيري دورموش، ومظفر آيات، ومصطفى قره سو، ورضا آلتون، وكسيرة يلدرم، وشاهين دونمز)، الاجتماع الثالث الحاسم جرى في العام 1976في حي “ديكمان” بأنقرة، وحضره حوالي 15 شخصاً، قرر المجتمعون تعليق الدراسة الجامعية وترك العاصمة، والعودة إلى كردستان، والبدء بفعاليات تنظيم الجماهير وتوعيتها، وفي اليوم الأول من عام 1977 يُعقد آخر اجتماع للمجموعة في منزل الطيار “نجاتي كايا”، وبعده ينطلق أعضاء المجموعة إلى ربوع مناطق باكور كردستان، من آكري إلى ديلوك، ومن ديرسم إلى آمد.
استشهاد حقي قرار وتأسيس الحزب
18 أيار 1977 وبينما كان يُسيّر الفعاليات التنظيمية والتوعوية بين الجماهير في منطقة ديلوك “عنتاب”، التي كانت من أهم وأكثر المناطق التي ينشط فيها أعضاء المجموعة، تم اغتيال حقي قرار، من جانب تنظيم “النجمة الحمراء”، التي كانت تابعة لإحدى التنظيمات العميلة التي أسستها أجهزة الاستخبارات التركية، برئاسة المدعو علاء الدين كابان، وبناء على إصرار كمال بير، وجميل بايك، تم اتخاذ القرار بمحاسبته حيث تمكنت المجموعة من قتله في منطقة إسكندرون.
استشهاد حقي قرار، نزل صاعقة على القائد عبد الله أوجلان، حيث قال عنه: “لقد كان شهيدنا الأول حقي قرار، شخصية مقاومة في أصعب الأوقات، وكان يعرف بنضاله، ويحظى بمكانة كبيرة في تأسيس حزب العمال الكردستاني، وتاريخ المقاومة الوطنية، وإن الارتباط بذكراه له معنى تاريخي، والنتائج التي برزت فيما بعد هي دلائل على هذا الارتباط”.
حادثة استشهاد حقي قرار، أظهرت أهمية وضرورة وجود تنظيم ثوري حقيقي، يستطيع أن يقوم بتوعية وتنظيم الشعب، ويقوده للخروج من القبر، الذي دفنته فيه السلطات التركية، في 26 و27 تشرين الثاني عام 1978 وفي قرية “فيس” بمنطقة لجي، التابعة لمدينة “آمد”، وفي منزل أحد أعضاء الحزب” علاء الدين زور خولو”، تم عقد اجتماع حضره 22 شخصاً من أصل 25 تم توجيه الدعوة لهم برفقة القائد عبد الله أوجلان، وكان المؤتمر التأسيسي للإعلان عن حزب العمال الكردستاني، بناء على البرنامج المُعدّ استذكاراً للشهيد حقي قرار.
من الرفاق والأشخاص الأوائل الذين حضروا المؤتمر التأسيسي: (القائد عبد الله أوجلان، ومحمد خيري دورموش، وجميل بايك، ومظلوم دوغان، ودوران كالكان، وعلي حيدر قايتان، وساكينة جانسيز، وشاهين دونمز، ورسول علي تينوك، وعلي غوندوز، وكسيرة يلدريم، وباقي قرار، وعلي جتينرين، وعاكف يلماز)، بينما لم يستطيع الحضور كمال بير، ومحمد قره سنغور، بسبب انشغالهم بالمقاومة المشتعلة في حلوان.
تحت قيادة نخبة من المثقفين الجامعيين الثوريين، وتحت إشراف ورئاسة قائد مُفكّر سليل عائلة كادحة من صلب الطبقة العاملة، وليس رجل دين أو آغا ولا أمير، تم خلق نموذج جديد لحزب ثوري حقيقي، قادر على التقرب من الجماهير، وبالتالي توعيتها وتنظيمها لأنه خرج من صلبها، وتأسيس الحزب يُعدُّ إنجازاً غير مسبوق باسم الطبقة العاملة وعموم الطبقة الكادحة، بعيداً عن ثالوث (المدينة، الطبقة، الدولة القومية)، حزب طابق الواقع النظري مع العملي، واستطاع تجسيد الواقع الثوري في ذاته، بينما القوى والمجموعات التي كانت تدّعي الثورية غُيبت من قادة الانقلاب العسكري في 12 أيلول 1980 وهي في غفلة من أمرها.
أبرز وأهم منطلقات القائد والمفكر الكبير عبد الله أوجلان، والتي يمكننا طرحها ضمن السياق الحضاري الوطني، ربط حرية المرأة بحرية المجتمع، وأن مجتمعاً لا يحترم المرأة، ولا تكون المرأة فيه حرة، لن يكون مجتمعاً حراً.
المصادر
ـ مانيفستو الحضارة الديمقراطية بمجلّداته الخمس وهي مرافعات القائد أوجلان 2009 / 2010 الى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان.
ـ ملحمة الانبعاث حوار أجراه الأستاذ “يالجين كوجوك” مع القائد عبد الله أوجلان الطبعة الأولى 1994
ـ أوجلان الزعيم… والقضية تأليف رجائي فايد / أحمد بهاء الدين الطبعة الأولى 1999
ـ مسألة الشخصية في كردستان عبد الله أوجلان الطبعة الأولى 1986.
ـ التاريخ مخفي في حاضرنا ونحن مخفيون في بداية التاريخ عبد الله أوجلان الطبعة الأولى 1997.